" وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما يتذكرون " .
لما نزلهم منزلة من لا يعلم ضرب مثلا لهم وللمؤمنين ، فمثل الذين يجادلون في أمر البعث مع وضوح إمكانه مثل الأعمى ، ومثل المؤمنين الذين آمنوا به حال البصير ، وقد علم حال المؤمنين من مفهوم صفة أكثر الناس لأن الأكثرين من الذين لا يعلمون يقابلهم أقلون يعلمون .
والمعنى : لا يستوي الذين اهتدوا والذين هم في ضلال ، فإطلاق الأعمى والبصير استعارة للفريقين اللذين تضمنهما قوله ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ونفي الاستواء بينهما يقتضي تفضيل أحدهما على الآخر كما قدمنا في قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية في سورة النساء ، ومن المتبادر أن الأفضل هو صاحب الحال الأفضل وهو البصير إذ لا يختلف الناس في أن البصر أشرف من العمى في شخص واحد ، ونفي الاستواء بدون متعلق يقتضي العموم في متعلقاته ، لكنه يخص بالمتعلقات التي يدل عليها سياق الكلام وهي آيات الله ودلائل صفاته ، ويسمى مثل هذا العموم
العموم العرفي ، وتقدم نظيرها في سورة فاطر .
وقوله
والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء زيادة بيان لفضيلة أهل الإيمان بذكر فضيلتهم في أعمالهم بعد ذكر فضلهم في إدراك أدلة
إمكان البعث ونحوه من أدلة الإيمان .
والمعنى : وما يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئون ، أي في أعمالهم كما يؤذن بذلك قوله وعملوا الصالحات ولا المسيء ، وفيه إيماء إلى
[ ص: 178 ] اختلاف جزي الفريقين وهذا الإيماء إدماج للتنبيه على الثواب والعقاب .
والواو في قوله والذين آمنوا عاطفة الجملة على الجملة بتقدير : وما يستوي الذين آمنوا .
والواو في قوله ولا المسيء عاطفة المسيء على الذين آمنوا عطف المفرد على المفرد ، فالعطف الأول عطف المجموع مثل قوله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن .
وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة ، والمشبه بالبصير أشرف من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون ، فقد ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهم في المقام بيان حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة .
وأما قوله
والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء فإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماما بشرف المؤمنين .
وأعيدت لا النافية بعد واو العطف على النفي ، وكان العطف مغنيا عنها فإعادتها لإفادتها تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإطناب ، ولذلك تعد ( لا ) في مثله زائدة كما في مغني اللبيب ، وكان الظاهر أن تقع لا قبل الذين آمنوا ، فعدل عن ذلك للتنبيه على أن المقصود
عدم مساواة المسيء لمن عمل الصالحات ، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مقتضي للعدول عنه بعد أن قضي حق الاهتمام بالذين سيق الكلام لأجل تمثيلهم ، فحصل في الكلام اهتمامان .
وقريب منه ما في سورة فاطر في أربع جمل : اثنتين قدم فيهما جانب تشبيه الكافرين ، واثنتين قدم فيهما تشبيه جانب المؤمنين ، وذلك قوله تعالى
وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات .
( وقليلا ) حال من ( أكثر الناس ) في قوله تعالى قبله
[ ص: 179 ] ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وما في قوله ما يتذكرون مصدرية وهي في محل رفع على الفاعلية .
وهذا مؤكد لمعنى قوله
ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأن قلة التذكر تئول إلى عدم العلم ، والقلة هنا كناية عن العدم وهو استعمال كثير ، كقوله تعالى
فقليلا ما يؤمنون ، ويجوز أن تكون على صريح معناها ويكون المراد بالقلة عدم التمام ، أي لا يعلمون فإذا تذكروا تذكروا تذكرا لا يتمنونه فينقطعون في أثنائه عن التعمق إلى استنباط الدلالة منه فهو كالعدم في عدم ترتب أثره عليه .
وقرأ الجمهور " يتذكرون " بياء الغيبة جريا على مقتضى ظاهر الكلام ، وقرأ
عاصم ،
وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وخلف تتذكرون بتاء الخطاب على الالتفات ، والخطاب للذين يجادلون في آيات الله .
وكون الخطاب لجميع الأمة من مؤمنين ومشركين وأن التذكر القليل هو تذكر المؤمنين فهو قليل بالنسبة لعدم تذكر المشركين بعيد عن سياق الرد ولا يلاقي الالتفات .