أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أم للإضراب وهو هنا انتقالي لانتقال الكلام من إبطال معتقدهم بنوة الملائكة لله تعالى بما لزمه من انتقاض حقيقة الإلهية ، إلى إبطاله بما يقتضيه من
[ ص: 178 ] انتقاص ينافي الكمال الذي تقتضيه الإلهية . والكلام بعد ( أم ) استفهام ، وهو استفهام إنكاري كما اقتضاه قوله :
وأصفاكم بالبنين . ومحل الاستدلال أن الإناث مكروهة عندهم فكيف يجعلون لله أبناء إناثا وهلا جعلوها ذكورا . وليست لهم معذرة عن الفساد المنجر إلى معتقدهم بالطريقتين لأن الإبطال الأول نظري يقيني . والإبطال الثاني جدلي بديهي قال تعالى :
ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى . فهذه حجة ناهضة عليهم لاشتهارها بينهم .
ولما ادعت
سجاح بنت الحارث النبوءة في
بني تميم أيام الردة وكان قد ادعى النبوءة قبلها
مسيلمة الحنفي ، والأسود العنسي ، nindex.php?page=showalam&ids=2265وطليحة بن خويلد الأسدي ، قال
عطارد بن حاجب التميمي .
أضحت نبيئتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وأوثر فعل ( اتخذ ) هنا لأنه يشمل الاتخاذ بالولادة ، أي بتكوين الانفصال عن ذات الله تعالى بالمزاوجة مع سروات الجن ، ويشمل ما هو دون ذلك وهو التبني . فعلى كلا الفرضين يتوجه إنكار أن يكون ما هو لله أدون مما هو لهم كما قال تعالى :
ويجعلون لله ما يكرهون . وقد أشار إلى هذا قوله :
وأصفاكم بالبنين ، فهذا ارتقاء في إبطال معتقدهم بإبطال فرض أن يكون الله تبنى الملائكة ، سدا على المشركين باب التأول والتنصل من فساد نسبتهم البنات إلى الله ، فلعلهم يقولون : ما أردنا إلا التبني ، كما تنصلوا حين دمغتهم براهين بطلان إلهية الأصنام فقالوا
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، وقالوا
هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
واعلم أن ما تؤذن به ( أم ) حيثما وقعت من تقدير استفهام بعدها هو هنا استفهام في معنى الإنكار وتسلط الإنكار على اتخاذ البنات مع عدم تقدم ذكر البنات لكون المعلوم من جعل المشركين لله جزءا أن المجعول جزءا له هو الملائكة وأنهم يجعلون الملائكة إناثا ، فذلك معلوم من كلامهم .
وجملة
وأصفاكم بالبنين في موضع الحال .
والنفي الحاصل من الاستفهام الإنكاري منصب إلى قيد الحال ، فحصل
[ ص: 179 ] إبطال اتخاذ الله البنات بدليلين ، لأن إعطاءهم البنين واقع فنفي اقترانه باتخاذه لنفسه البنات يقتضي انتفاء اتخاذه البنات فالمقصود اقتران الإنكار بهذا القيد .
وبهذا يتضح أن الواو في جملة ( وأصفاكم ) ليست واو العطف لأن إنكار أن يكون أصفاهم بالبنين لا يقتضي نفي الأولاد الذكور عن الله تعالى .
والخطاب في ( وأصفاكم ) موجه إلى الذين جعلوا له من عباده جزءا ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ليكون الإنكار والتوبيخ أوقع عليهم لمواجهتهم به .
وتنكير ( بنات ) لأن التنكير هو الأصل في أسماء الأجناس . وأما تعريف البنين باللام فهو تعريف الجنس المتقدم في قوله : ( الحمد لله ) في سورة الفاتحة . والمقصود منه هنا الإشارة إلى المعروف عندهم المتنافس في وجوده لديهم وتقدم عند قوله :
يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور في سورة الشورى .
وتقديم البنات في الذكر على البنين لأن ذكرهن أهم هنا إذ هو الغرض المسوق له الكلام بخلاف مقام قوله :
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا في سورة الإسراء . ولما في التقديم من الرد على المشركين في تحقيرهم البنات وتطيرهم منهن مثل ما تقدم في سورة الشورى .
والإصفاء : إعطاء الصفوة ، وهي الخيار من شيء .
وجملة
وإذا بشر أحدهم يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير النصب في
أفأصفاكم ربكم بالبنين ، ومقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير الخطاب في قوله : ( أحدهم ) فعدل عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة على طريق الالتفات ليكونوا محكيا حالهم إلى غيرهم تعجيبا من فساد مقالتهم وتشنيعا بها إذ نسبوا لله بنات دون الذكور وهو نقص ، وكانوا ممن يكره البنات ويحقرهن فنسبتها إلى الله مفض إلى الاستخفاف بجانب الإلهية .
والمعنى : أتخذ مما يخلق بنات الله وأصفاكم بالبنين في حال أنكم إذا بشر أحدكم بما ضربه للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا .
[ ص: 180 ] ويجوز أن تكون اعتراضا بين جملة
أم اتخذ مما يخلق بنات وجملة
أومن ينشأ في الحلية .
واستعمال البشارة هنا تهكم بهم كقوله :
فبشرهم بعذاب أليم لأن البشارة إعلام بحصول أمر مسر .
و ( ما ) في قوله :
بما ضرب للرحمن مثلا موصولة ، أي بشر بالجنس الذي ضربه ، أي جعله مثلا وشبها لله في الإلهية ، وإذ جعلوا جنس الأنثى جزءا لله ، أي منفصلا منه فالمبشر به جنس الأنثى ، والجنس لا يتعين . فلا حاجة إلى تقدير : بشر بمثل ما ضربه للرحمن مثلا .
والمثل : الشبيه .
والضرب : الجعل والصنع ، ومنه ضرب الدينار ، وقولهم : ضربة لازب ، فماصدق
ما ضرب للرحمن مثلا هو الإناث .
ومعنى ( ظل ) هنا : صار ، فإن الأفعال الناقصة الخمسة المفتتح بها باب الأفعال الناقصة ، تستعمل بمعنى صار .
واسوداد الوجه من شدة الغضب والغيظ إذ يصعد الدم إلى الوجه فتصير حمرته إلى سواد ، والمعنى : تغيظ .
والكظيم : الممسك ، أي عن الكلام كربا وحزنا .