فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون تفريع على جملة "
أفأنت تسمع الصم " إلى آخرها المتضمنة إيماء إلى التأسيس من اهتدائهم ، والصريحة في تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - من شدة الحرص في دعوتهم ، فجاء هنا تحقيق وعد بالانتقام منهم ، ومعناه : الوعد بإظهار الدين إن كان في حياة النبيء - صلى الله عليه وسلم - أو بعد وفاته ، ووعيدهم بالعقاب في الدنيا قبل عقاب الآخرة ، فلأجل الوفاء بهذين الغرضين ذكر في هذه الجملة أمران : الانتقام منهم لا محالة ، وكون ذلك واقعا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بعد وفاته . والمفرع هو فإنا منهم منتقمون وما ذكر معه ، فمراد منه تحقق ذلك على كل تقدير .
و ( إما ) كلمتان متصلتان أصلهما ( إن ) الشرطية و ( ما ) زائدة بعد ( إن ) ، وأدغمت نون ( إن ) في الميم من حرف ( ما ) ، وزيادة ( ما ) للتأكيد ، ويكثر اتصال فعل الشرط بعد ( إن ) المزيدة بعدها ( ما ) بنون التوكيد زيادة في التأكيد ، ويكتبونها بهمزة وميم وألف تبعا لحالة النطق بها .
والذهاب به هنا مستعمل للتوفي بقرينة قوله "
أو نرينك الذي وعدناهم " لأن الموت مفارقة للأحياء فالإماتة كالانتقال به ، أي تغييبه ولذلك يعبر عن الموت بالانتقال . والمعنى : فإما نتوفينك فإنا منهم منتقمون بعد وفاتك .
[ ص: 218 ] وقد استعمل منتقمون للزمان المستقبل استعمال اسم الفاعل في الاستقبال ، وهو مجاز شائع مساو للحقيقة والقرينة قوله فإما نذهبن بك .
والمراد بـ الذي وعدناهم الانتقام المأخوذ من قوله فإنا منهم منتقمون . وقد أراه الله تعالى الانتقام منهم بقتل صناديدهم يوم
بدر ، قال تعالى
يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون والبطشة هي بطشة بدر .
وجملة فإنا منهم منتقمون جواب الشرط ، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية ، وإنما صيغ كذلك للدلالة على ثبات الانتقام ودوامه ، وأما جملة "
فإنا عليهم مقتدرون " فهي دليل جواب جملة
أو نرينك الذي وعدناهم المعطوفة على جملة الشرط لأن اقتدار الله عليهم لا يناسب أن يكون معلقا على إراءته الرسول - صلى الله عليه وسلم - الانتقام منهم ، فالجواب محذوف لا محالة لقصد التهويل . وتقديره : أو إما نرينك الذي وعدناهم ، وهو الانتقام تر انتقاما لا يفلتون منه
فإنا عليهم مقتدرون ، أي متقدرون الآن ، فاسم الفاعل مستعمل في زمان الحال وهو حقيقته .
ولا يستقيم أن تكون جملة "
فإنا منهم منتقمون " دليلا على الجواب المحذوف لأنه يصير : أو إما نرينك الانتقام منهم فإنا منهم منتقمون .
وتقديم المجرورين منهم وعليهم على متعلقيهما للاهتمام بهم في التمكن بالانتقام والاقتدار عليهم .
والوعد هنا بمعنى الوعيد بقرينة قوله قبله فإنا منهم منتقمون ، فإن الوعد إذا ذكر مفعوله صح إطلاقه على الخير والشر ، وإذا لم يذكر مفعوله انصرف للخير وأما الوعيد فهو للشر دائما .
والاقتدار : شدة القدرة ، واقتدر أبلغ من قدر . وقد غفل صاحب القاموس عن التنبيه عليه .
وقد اشتمل هذان الشرطان وجواباهما على خمسة مؤكدات وهي ( ما ) الزائدة ، ونون التوكيد ، وحرف ( إن ) للتوكيد ، والجملة الاسمية ، وتقديم المعمول على منتقمون .
[ ص: 219 ] وفائدة الترديد في هذا الشرط تعميم الحالين حال حياة النبيء - صلى الله عليه وسلم - وحال وفاته . والمقصود : وقت ذينك الحالين لأن المقصود توقيت الانتقام منهم .
والمعنى : أننا منتقمون منهم في الدنيا ، سواء كنت حيا أو بعد موتك ، أي فالانتقام منهم من شأننا وليس من شأنك لأنه من أجل إعراضهم عن أمرنا وديننا ، ولعله لدفع استبطاء النبيء - صلى الله عليه وسلم - أو المسلمين تأخير الانتقام من المشركين ولأن المشركين كانوا يتربصون بالنبيء الموت فيستريحوا من دعوته فأعلمه الله أنه لا يفلتهم من الانتقام على تقدير موته ، وقد حكى الله عنهم قولهم نتربص به ريب المنون ففي هذا الوعيد إلقاء الرعب في قلوبهم لما يسمعونه .