سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
افتتاح السورة بذكر تسبيح الله وتنزيهه مؤذن بأن أهم ما اشتملت عليه إثبات وصف الله بالصفات الجليلة المقتضية أنه منزه عما ضل في شأنه أهل الضلال من وصفه بما لا يليق بجلاله ، وأول التنزيه هو نفي الشريك له في الإلهية ، فإن الوحدانية هي أكبر صفة ضل في كنهها المشركون والمانوية ونحوهم من
أهل التثنية وأصحاب التثليث والبراهمة ، وهي الصفة التي ينبئ عنها اسمه العلم أعني
[ ص: 357 ] ( الله ) لما علمت في تفسير الفاتحة من أن أصله الإله ، أي : المنفرد بالإلهية .
وأتبع هذا الاسم بصفات ربانية تدل على كمال الله تعالى وتنزهه عن النقص كما يأتي بيانه فكانت هذه الفاتحة براعة استهلال لهذه السورة ، ولذلك أتبع اسمه العلم بعشر صفات هي جامعة لصفات الكمال وهي : العزيز ، الحكيم ، له ملك السماوات والأرض ، يحيي ، ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، وهو الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، وهو بكل شيء عليم .
وصيغ فعل التسبيح بصيغة الماضي للدلالة على أن تنزيهه تعالى أمر مقرر أمر الله به عباده من قبل وألهمه الناس وأودع دلائله في أحوال ما لا اختيار له ، كما دل عليه قوله تعالى
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال وقوله
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
ففي قوله " سبح " تعريض بالمشركين الذين أهملوا أهم التسبيح وهو تسبيحه عن الشريك والند .
واللام في قوله " لله " لام التبيين . وفائدتها زيادة بيان ارتباط المعمول بعامله لأن فعل التسبيح متعد بنفسه لا يحتاج إلى التعدية بحرف ، قال تعالى
فاسجد له وسبحه ، فاللام هنا نظيره اللام في قولهم : شكرت لك ، ونصحت لك ، وقوله تعالى " ونقدس لك " ، وقولهم سقيا لك ورعيا لك ، وأصله : سقيك ورعيك .
و
ما في السماوات والأرض يعم الموجودات كلها فإن ( ما ) اسم موصول يعم العقلاء وغيرهم ، أو هو خاص بغير العقلاء فجرى هنا على التغليب ، وكلها دال على تنزيه الله تعالى عن الشريك فمنها دلالة بالقول كتسبيح الأنبياء والمؤمنين ، ومنها دلالة بالفعل كتسبيح الملائكة ، ومنها دلالة بشهادة الحال كما تنبئ به أحوال الموجودات من الافتقار إلى الصانع المنفرد بالتدبير ، فإن جعل عموم
ما في السماوات والأرض مخصوصا بمن يتأتى منهم النطق بالتسبيح وهم العقلاء كان إطلاق التسبيح على تسبيحهم حقيقة .
[ ص: 358 ] وإن حمل العموم على ظاهره لزم تأويل فعل " سبح " بما يشمل الحقيقة والمجاز فيكون مستعملا في حقيقته ومجازه .
والعزيز : الذي لا يغلب ، وهذا الوصف ينفي وجود الشريك في الإلهية .
و " الحكيم " الموصوف بالحكمة ، وهي وضع الأفعال حيث يليق بها ، وهي أيضا العلم الذي لا يخطئ ولا يتخلف ولا يحول دون تعلقه بالمعلومات حائل ، وتقدما في سورة البقرة . وهذا الوصف يثبت أن أفعاله تعالى جارية على تهيئة المخلوقات لما به إصابة ما خلقت لأجله ، فلذلك عززها الله بإرشاده بواسطة الشرائع .