إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس .
تسلية عما أصاب المسلمين يوم
أحد من الهزيمة بأن ذلك غير عجيب في الحرب ، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب ، وقد سبق أن العدو غلب . والمس هنا الإصابة كقوله في سورة البقرة
مستهم البأساء والضراء . والقرح بفتح القاف في لغة
قريش الجرح ، وبضمها في لغة غيرهم ، وقرأ الجمهور : بفتح القاف ، وقرأه
حمزة ، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، وأبو بكر ، عن
عاصم ، وخلف : بضم القاف ، وهو هنا مستعمل في غير حقيقته ، بل هو استعارة للهزيمة التي أصابتهم ، فإن الهزيمة تشبه بالثلمة وبالانكسار ، فشبهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد ، ولا يصح أن يراد به الحقيقة لأن الجراح التي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر ، فلا شك أن التسلية وقعت عما أصابهم من الهزيمة .
والقوم هم مشركو مكة ومن معهم .
والمعنى إن هزمتم يوم
أحد فقد هزم المشركون يوم
بدر وكنتم كفافا . ولذلك أعقب بقوله
وتلك الأيام نداولها بين الناس . والتعبير عما أصاب المسلمين بصيغة المضارع في يمسسكم لقربه من زمن الحال ، وعما أصاب المشركين بصيغة الماضي لبعده لأنه حصل يوم بدر .
فقوله
فقد مس القوم قرح مثله ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنه دليل عليه أغنى عنه على طريقة الإيجاز ، والمعنى : إن يمسسكم قرح فلا تحزنوا أو فلا تهنوا وهنا بالشك في وعد الله بنصر دينه إذ قد مس القوم قرح مثله
[ ص: 100 ] فلم تكونوا مهزومين ولكنكم كنتم كفافا ، وذلك بالنسبة لقلة المؤمنين نصر مبين . وهذه المقابلة بما أصاب العدو يوم
بدر تعين أن يكون الكلام تسلية وليس إعلاما بالعقوبة كما قاله جمع من المفسرين . وقد سأل
هرقل أبا سفيان : فقال
هرقل : وكذلك الرسل تبتلى وتكون لهم العاقبة .
وقوله
وتلك الأيام نداولها بين الناس الواو اعتراضية ، والإشارة بتلك إلى ما سيذكر بعد ، فالإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن لقصد الاهتمام بالخبر وهذا الخبر مكنى به عن تعليل للجواب المحذوف المدلول عليه بجملة
فقد مس القوم قرح مثله .
والأيام يجوز أن تكون جمع يوم مراد به يوم الحرب ، كقولهم : يوم
بدر ويوم بعاث ويوم الشعثمين ، ومنه أيام العرب ، ويجوز أن يكون أطلق على الزمان كقول
طرفة :
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
أي الأزمان .
والمداولة تصريفها غريب إذ هي مصدر داول فلان الشيء إذا جعله عنده دولة ودولة عند الآخر أي يدوله كل منها أي يلزمه حتى يشتهر به ، ومنه دال يدول دولا اشتهر ، لأن الملازمة تقتضي الشهرة بالشيء ، فالتداول في الأصل تفاعل من دال ، ويكون ذلك في الأشياء والكلام ، يقال : كلام مداول ، ثم استعملوا داولت الشيء مجازا ، إذا جعلت غيرك يتداولونه ، وقرينة هذا الاستعمال أن تقول : بينهم . فالفاعل في هذا الإطلاق لا حظ له من الفعل ، ولكن له الحظ في الجعل ، وقريب منه قولهم : اضطررته إلى كذا ، أي جعلته مضطرا مع أن أصل اضطر أنه مطاوع ضره .
والناس البشر كلهم لأن هذا من السنن الكونية ، فلا يختص بالقوم المتحدث عنهم .