وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون .
لما جرى ذكر الساعة وما يلحق المشركين فيها من الحسرة على ما فرطوا ناسب أن يذكر الناس بأن الحياة الدنيا زائلة وأن عليهم أن يستعدوا للحياة الآخرة . فيحتمل أن يكون جوابا لقول المشركين
إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين . فتكون الواو للحال ، أي تقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا ولو نظرتم حق النظر لوجدتم الحياة الدنيا لعبا ولهوا وليس فيها شيء باق ، فلعلمتم أن وراءها حياة أخرى فيها من الخيرات ما هو أعظم مما في الدنيا وإنما يناله المتقون ، أي المؤمنون ، فتكون الآية إعادة لدعواتهم إلى الإيمان والتقوى ، ويكون الخطاب في قوله
أفلا تعقلون التفاتا من الحديث عنهم بالغيبة إلى خطابهم بالدعوة .
[ ص: 193 ] ويحتمل أنه اعتراض بالتذييل لحكاية حالهم في الآخرة ، فإنه لما حكى قولهم يا حسرتنا على ما فرطنا فيها علم السامع أنهم فرطوا في الأمور النافعة لهم في الآخرة بسبب الانهماك في زخارف الدنيا ، فذيل ذلك بخطاب المؤمنين تعريفا بقيمة زخارف الدنيا وتبشيرا لهم بأن الآخرة هي دار الخير للمؤمنين ، فتكون الواو عطفت جملة البشارة على حكاية النذارة . والمناسبة هي التضاد . وأيضا في هذا نداء على سخافة عقولهم إذ غرتهم في الدنيا فسول لهم الاستخفاف بدعوة الله إلى الحق . فيجعل قوله أفلا تعقلون خطابا مستأنفا للمؤمنين تحذيرا لهم من أن تغرهم زخارف الدنيا فتلهيهم عن العمل للآخرة .
وهذا الحكم عام على جنس الحياة الدنيا ، فالتعريف في الحياة تعريف الجنس ، أي الحياة التي يحياها كل أحد المعروفة بالدنيا ، أي الأولى والقريبة من الناس ، وأطلقت الحياة الدنيا على أحوالها ، أو على مدتها .
واللعب : عمل أو قول في خفة وسرعة وطيش ليست له غاية مفيدة بل غايته إراحة البال وتقصير الوقت واستجلاب العقول في حالة ضعفها كعقل الصغير وعقل المتعب ، وأكثره أعمال الصبيان . قالوا ولذلك فهو مشتق من اللعاب ، وهو ريق الصبي السائل . وضد اللعب الجد .
واللهو : ما يشتغل به الإنسان مما ترتاح إليه نفسه ولا يتعب في الاشتغال به عقله ، فلا يطلق إلا على ما فيه استمتاع ولذة وملائمة للشهوة .
وبين اللهو واللعب العموم والخصوص الوجهي . فهما يجتمعان في العمل الذي فيه ملاءمة ويقارنه شيء من الخفة والطيش كالطرب واللهو بالنساء . وينفرد اللعب في لعب الصبيان . وينفرد اللهو في نحو الميسر والصيد .
وقد أفادت صيغة
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو قصر الحياة على اللعب واللهو ، وهو قصر موصوف على صفة . والمراد بالحياة الأعمال التي يحب الإنسان الحياة لأجلها ، لأن الحياة مدة وزمن لا يقبل الوصف بغير أوصاف الأزمان من طول أو قصر ،
[ ص: 194 ] وتحديد أو ضده ، فتعين أن المراد بالحياة الأعمال المظروفة فيها . واللعب واللهو في قوة الوصف ، لأنهما مصدران أريد بهما الوصف للمبالغة ، كقول
الخنساء :
فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا القصر ادعائي يقصد به المبالغة ، لأن الأعمال الحاصلة في الحياة كثيرة ، منها اللهو واللعب ، ومنها غيرهما ، قال تعالى :
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد . فالحياة تشتمل على أحوال كثيرة منها الملائم كالأكل واللذات ، ومنها المؤلم كالأمراض والأحزان ، فأما المؤلمات فلا اعتداد بها هنا ولا التفات إليها لأنها ليست مما يرغب فيه الراغبون ، لأن المقصود من ذكر الحياة هنا ما يحصل فيها مما يحبها الناس لأجله ، وهو الملائمات .
وأما الملائمات فهي كثيرة ، ومنها ما ليس بلعب ولهو ، كالطعام والشراب والتدفؤ في الشتاء والتبرد في الصيف وجمع المال عند المولع به وقري الضيف ونكاية العدو وبذل الخير للمحتاج ، إلا أن هذه لما كان معظمها يستدعي صرف همة وعمل كانت مشتملة على شيء من التعب وهو منافر ، فكان معظم ما يحب الناس الحياة لأجله هو اللهو واللعب ، لأنه الأغلب على أعمال الناس في أول العمر والغالب عليهم فيما بعد ذلك . فمن اللعب المزاح ومغازلة النساء ، ومن اللهو الخمر والميسر والمغاني والأسمار وركوب الخيل والصيد .
فأما أعمالهم في القربات كالحج والعمرة والنذر والطواف بالأصنام والعتيرة ونحوها فلأنها لما كانت لا اعتداد بها بدون الإيمان كانت ملحقة باللعب ، كما قال تعالى
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ، وقال
الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا .
فلا جرم كان الأغلب على المشركين والغالب على الناس اللعب واللهو إلا من آمن وعمل صالحا . فلذلك وقع القصر الادعائي في قوله :
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو .
وعقب بقوله :
وللدار الآخرة خير للذين يتقون ، فعلم منه أن أعمال المتقين في
[ ص: 195 ] الدنيا هي ضد اللعب واللهو ، لأنهم جعلت لهم دار أخرى هي خير ، وقد علم أن الفوز فيها لا يكون إلا بعمل في الدنيا فأنتج أن عملهم في الدنيا ليس اللهو واللعب وأن حياة غيرهم هي المقصورة على اللهو واللعب .
والدار محل إقامة الناس ، وهي الأرض التي فيها بيوت الناس من بناء أو خيام أو قباب . والآخرة مؤنث وصف الآخر - بكسر الخاء - وهو ضد الأول ، أي مقر الناس الأخير الذي لا تحول بعده .
وقرأ جمهور العشرة ( وللدار ) بلامين لام الابتداء ولام التعريف ، وقرءوا ( الآخرة ) بالرفع . وقرأ
ابن عامر ( ولدار الآخرة ) بلام الابتداء فقط وبإضافة ( دار ) منكرة إلى الآخرة فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم : مسجد الجامع ، أو هو على تقدير مضاف تكون ( الآخرة ) وصفا له . والتقدير : دار الحياة الآخرة .
و ( خير ) تفضيل على الدنيا باعتبار ما في الدنيا من نعيم عاجل زائل يلحق معظمه مؤاخذة وعذاب .
وقوله
للذين يتقون تعريض بالمشركين بأنهم صائرون إلى الآخرة لكنها ليست لهم بخير مما كانوا في الدنيا . والمراد بالذين يتقون المؤمنون التابعون لما أمر الله به ، كقوله تعالى :
هدى للمتقين ، فإن الآخرة لهؤلاء خير محض . وأما من تلحقهم مؤاخذة على أعمالهم السيئة من المؤمنين فلما كان مصيرهم بعد إلى الجنة كانت الآخرة خيرا لهم من الدنيا .
وقوله
أفلا تعقلون عطف بالفاء على جملة
وما الحياة الدنيا إلى آخرها لأنه يتفرع عليه مضمون الجملة المعطوفة . والاستفهام عن عدم عقلهم مستعمل في التوبيخ إن كان خطابا للمشركين ، أو في التحذير إن كان خطابا للمؤمنين . على أنه لما كان استعماله في أحد هذين على وجه الكناية صح أن يراد منه الأمران باعتبار كلا الفريقين ، لأن المدلولات الكنائية تتعدد ولا يلزم من تعددها الاشتراك ، لأن دلالتها التزامية ، على أننا نلتزم استعمال المشترك في معنييه .
[ ص: 196 ] وقرأ
نافع ،
وابن عامر ،
وحفص ،
وأبو جعفر ،
ويعقوب ، (
أفلا تعقلون ) بتاء الخطاب على طريقة الالتفات . وقرأه الباقون بياء تحتية ، فهو على هذه القراءة عائد لما عاد إليه ضمائر الغيبة قبله ، والاستفهام حينئذ للتعجيب من حالهم .
وفي قوله :
للذين يتقون تأييس للمشركين .