nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31nindex.php?page=treesubj&link=28977_30351_30539_30295قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون .
استئناف للتعجيب من حالهم حين يقعون يوم القيامة في العذاب على ما استداموه من الكفر الذي جرأهم على استدامته اعتقادهم نفي البعث فذاقوا العذاب لذلك ، فتلك حالة يستحقون بها أن يقال فيهم : قد خسروا وخابوا .
والخسران تقدم القول فيه عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=20الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون في هذه السورة .
[ ص: 189 ] والخسارة هنا حرمان خيرات الآخرة لا الدنيا . والذين كذبوا بلقاء الله هم الذين حكى عنهم بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=29وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا فكان مقتضى الظاهر الإضمار تبعا لقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=27ولو ترى إذ وقفوا على النار وما بعده ، بأن يقال : قد خسروا ، لكن عدل إلى الإظهار ليكون الكلام مستقلا وليبنى عليه ما في الصلة من تفصيل بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة إلخ .
ولقاء الله هو ظهور آثار رضاه وغضبه دون تأخير ولا إمهال ولا وقاية بأسباب عادية من نظام الحياة الدنيا ، فلما كان العالم الأخروي وهو ما بعد البعث عالم ظهور الحقائق بآثارها دون موانع ، وتلك الحقائق هي مراد الله الأعلى الذي جعله عالم كمال الحقائق ، جعل المصير إليه مماثلا للقاء صاحب الحق بعد الغيبة والاستقلال عنه زمانا طويلا ، فلذلك سمي البعث ملاقاة الله ، ولقاء الله ومصيرا إلى الله ، ومجيئا إليه ، في كثير من الآيات والألفاظ النبوية ، وإلا فإن الناس في الدنيا هم في قبضة تصرف الله لو شاء لقبضهم إليه ولعجل إليهم جزاءهم . قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=11ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم . ولكنه لما أمهلهم واستدرجهم في هذا العالم الدنيوي ورغب ورهب ووعد وتوعد كان حال الناس فيه كحال العبيد يأتيهم الأمر من مولاهم الغائب عنهم ويرغبهم ويحذرهم ، فمنهم من يمتثل ومنهم من يعصي ، وهم لا يلقون حينئذ جزاء عن طاعة ولا عقابا عن معصية لأنه يملي لهم ويؤخرهم ، فإذا طوي هذا العالم وجاءت الحياة الثانية صار الناس في نظام آخر ، وهو نظام ظهور الآثار دون ريث ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49ووجدوا ما عملوا حاضرا ، فكانوا كعبيد لقوا ربهم بعد أن غابوا وأمهلوا . فاللقاء استعارة تمثيلية : شبهت حالة الخلق عند المصير إلى تنفيذ وعد الله ووعيده بحالة العبيد عند حضور سيدهم بعد غيبة ليجزيهم على ما فعلوه في مدة المغيب . وشاع هذا التمثيل في القرآن وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341269من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، وفي القرآن
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=15لينذر يوم التلاق .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ( حتى ) ابتدائية ، وهي لا تفيد الغاية وإنما تفيد السببية ، كما صرح به
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب ، أي فإذا جاءتهم الساعة بغتة . ومن المفسرين من جعل
[ ص: 190 ] مجيء الساعة غاية للخسران ، وهو فاسد لأن الخسران المقصود هنا هو خسرانهم يوم القيامة ، فأما في الدنيا ففيهم من لم يخسر شيئا . وقد تقدم كلام على ( حتى ) الابتدائية عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=25وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك في هذه السورة . وسيجيء لمعنى ( حتى ) زيادة بيان عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إلى قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37حتى إذا جاءتهم رسلنا في سورة الأعراف .
والساعة : علم بالغلبة على ساعة البعث والحشر .
والبغتة : فعلة من البغت ، وهو مصدر . بغته الأمر إذا نزل به فجأة من غير ترقب ولا إعلام ولا ظهور شبح أو نحوه . ففي البغت معنى المجيء عن غير إشعار . وهو منتصب على الحال ، فإن المصدر يجيء حالا إذا كان ظاهرا تأويله باسم الفاعل ، وهو يرجع إلى الإخبار بالمصدر لقصد المبالغة .
وقوله ( قالوا ) جواب ( إذا ) . و ( يا حسرتنا ) نداء مقصود به التعجب والتندم ، وهو في أصل الوضع نداء للحسرة بتنزيلها منزلة شخص يسمع وينادى ليحضر كأنه يقول : يا حسرة احضري فهذا أوان حضورك . ومنه قولهم : يا ليتني فعلت كذا ، ويا أسفي أو يا أسفا ، كما تقدم آنفا .
وأضافوا الحسرة إلى أنفسهم ليكون تحسرهم لأجل أنفسهم ، فهم المتحسرون والمتحسر عليهم ، بخلاف قول القائل : يا حسرة ، فإنه في الغالب تحسر لأجل غيره فهو يتحسر لحال غيره . ولذلك تجيء معه ( على ) التي تدخل على الشيء المتحسر من أجله داخلة على ما يدل على غير التحسر ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=30يا حسرة على العباد ، فأما مع ( يا حسرتي ، أو يا حسرتا ) فإنما تجيء ( على ) داخلة على الأمر الذي كان سببا في التحسر كما هنا على ما فرطنا فيها . ومثل ذلك قولهم : يا ويلي ويا ويلتي ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49ويقولون يا ويلتنا ، فإذا أراد المتكلم أن الويل لغيره قال : ويلك ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=17ويلك آمن ويقولون : ويل لك .
[ ص: 191 ] والحسرة : الندم الشديد ، وهو التلهف ، وهي فعلة من حسر يحسر حسرا ، من باب فرح ، ويقال : تحسر تحسرا . والعرب يعاملون اسم المرة معاملة مطلق المصدر غير ملاحظين فيه معنى المرة ، ولكنهم يلاحظون المصدر في ضمن فرد ، كمدلول لام الحقيقة ، ولذلك يحسن هذا الاعتبار في مقام النداء لأن المصدر اسم للحاصل بالفعل بخلاف اسم المرة فهو اسم لفرد من أفراد المصدر فيقوم مقام الماهية .
و ( فرطنا ) أضعنا . يقال : فرط في الأمر إذا تهاون بشيء ولم يحفظه ، أو في اكتسابه حتى فاته وأفلت منه . وهو يتعدى إلى المفعول بنفسه ، كما دل عليه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38ما فرطنا في الكتاب من شيء . والأكثر أن يتعدى بحرف ( في ) فيقال فرط في ماله ، إذا أضاعه .
و ( ما ) موصولة ماصدقها الأعمال الصالحة . ومفعول فرطنا محذوف يعود إلى ( ما ) . تقديره : ما فرطناه وهم عام مثل معاده ، أي ندمنا على إضاعة كل ما من شأنه أن ينفعنا ففرطناه ، وضمير فيها عائد إلى الساعة . و ( في ) تعليلية ، أي ما فوتناه من الأعمال النافعة لأجل نفع هذه الساعة ، ويجوز أن يكون ( في ) للتعدية بتقدير مضاف إلى الضمير ، أي في خيراتها . والمعنى على ما فرطنا في الساعة ، يعنون ما شاهدوه من نجاة ونعيم أهل الفلاح . ويجوز أن يعود ضمير ( فيها ) على الحياة الدنيا ، فيكون ( في ) للظرفية الحقيقية .
وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم في موضع الحال من ضمير قالوا ، أي قالوا ذلك في حال أنهم يحملون أوزارهم فهم بين تلهف على التفريط في الأعمال الصالحة والإيمان وبين مقاساة العذاب على الأوزار التي اقترفوها ، أي لم يكونوا محرومين من خير ذلك اليوم فحسب ؛ بل كانوا مع ذلك متعبين مثقلين بالعذاب .
والأوزار جمع وزر بكسر الواو ، وهو الحمل الثقيل ، وفعله وزر يزر إذا حمل . ومنه قوله هنا
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31ألا ساء ما يزرون . وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=164ولا تزر وازرة وزر أخرى . وأطلق الوزر على الذنب والجناية لثقل عاقبتها على جانيها .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم تمثيل لهيئة عنتهم من جراء ذنوبهم
[ ص: 192 ] بحال من يحمل حملا ثقيلا . وذكر على ظهورهم هنا مبالغة في تمثيل الحالة ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=30وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم . فذكر الأيدي لأن الكسب يكون باليد ، فهو يشبه تخييل الاستعارة ولكنه لا يتأتى التخييل في التمثيلية لأن ما يذكر فيها صالح لاعتباره من جملة الهيئة ، فإن الحمل على الظهر مؤذن بنهاية ثقل المحمول على الحامل .
ومن لطائف التوجيه وضع لفظ الأوزار في هذا التمثيل ; فإنه مشترك بين الأحمال الثقيلة وبين الذنوب ، وهم إنما وقعوا في هذه الشدة من جراء ذنوبهم فكأنهم يحملونها لأنهم يعانون شدة آلامها .
وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31ألا ساء ما يزرون تذييل .
و ( ألا ) حرف استفتاح يفيد التنبيه للعناية بالخبر . و (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31ساء ما يزرون ) إنشاء ذم . و ( يزرون ) بمعنى يحملون ، أي ساء ما يمثل من حالهم بالحمل . و ( ما يزرون ) فاعل ساء . والمخصوص بالذم محذوف ، تقديره : حملهم .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31nindex.php?page=treesubj&link=28977_30351_30539_30295قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمُ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ .
اسْتِئْنَافٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ حِينَ يَقَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ عَلَى مَا اسْتَدَامُوهُ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى اسْتَدَامَتِهِ اعْتِقَادُهُمْ نَفْيَ الْبَعْثِ فَذَاقُوا الْعَذَابَ لِذَلِكَ ، فَتِلْكَ حَالَةٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ : قَدْ خَسِرُوا وَخَابُوا .
وَالْخُسْرَانُ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=20الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ .
[ ص: 189 ] وَالْخَسَارَةُ هُنَا حِرْمَانُ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ لَا الدُّنْيَا . وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=29وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارُ تَبَعًا لِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=27وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وَمَا بَعْدَهُ ، بِأَنْ يُقَالَ : قَدْ خَسِرُوا ، لَكِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُسْتَقِلًّا وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ مَا فِي الصِّلَةِ مِنْ تَفْصِيلٍ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً إِلَخْ .
وَلِقَاءُ اللَّهِ هُوَ ظُهُورُ آثَارِ رِضَاهُ وَغَضَبِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ وَلَا إِمْهَالٍ وَلَا وِقَايَةٍ بِأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا كَانَ الْعَالَمُ الْأُخْرَوِيُّ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبَعْثِ عَالَمَ ظُهُورِ الْحَقَائِقِ بِآثَارِهَا دُونَ مَوَانِعَ ، وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ هِيَ مُرَادُ اللَّهِ الْأَعْلَى الَّذِي جَعَلَهُ عَالَمَ كَمَالِ الْحَقَائِقِ ، جَعَلَ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ مُمَاثِلًا لِلِقَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ بَعْدَ الْغَيْبَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ عَنْهُ زَمَانًا طَوِيلًا ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْبَعْثُ مُلَاقَاةَ اللَّهِ ، وَلِقَاءَ اللَّهِ وَمَصِيرًا إِلَى اللَّهِ ، وَمَجِيئًا إِلَيْهِ ، فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَلْفَاظِ النَّبَوِيَّةِ ، وَإِلَّا فَإِنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا هُمْ فِي قَبْضَةِ تَصَرُّفِ اللَّهِ لَوْ شَاءَ لَقَبَضَهُمْ إِلَيْهِ وَلَعَجَّلَ إِلَيْهِمْ جَزَاءَهُمْ . قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=11وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمُ أَجَلُهُمْ . وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَمْهَلَهُمْ وَاسْتَدْرَجَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ وَوَعَدَ وَتَوَعَّدَ كَانَ حَالُ النَّاسِ فِيهِ كَحَالِ الْعَبِيدِ يَأْتِيهِمُ الْأَمْرُ مِنْ مَوْلَاهُمُ الْغَائِبِ عَنْهُمْ وَيُرَغِّبُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَثِلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْصِي ، وَهُمْ لَا يَلْقَوْنَ حِينَئِذٍ جَزَاءً عَنْ طَاعَةٍ وَلَا عِقَابًا عَنْ مَعْصِيَةٍ لِأَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيُؤَخِّرُهُمْ ، فَإِذَا طُوِيَ هَذَا الْعَالَمُ وَجَاءَتِ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ صَارَ النَّاسُ فِي نِظَامٍ آخَرَ ، وَهُوَ نِظَامُ ظُهُورِ الْآثَارِ دُونَ رَيْثٍ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ، فَكَانُوا كَعَبِيدٍ لَقُوا رَبَّهُمْ بَعْدَ أَنْ غَابُوا وَأُمْهِلُوا . فَاللِّقَاءُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ : شَبَّهَتْ حَالَةَ الْخَلْقِ عِنْدَ الْمَصِيرِ إِلَى تَنْفِيذِ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ بِحَالَةِ الْعَبِيدِ عِنْدَ حُضُورِ سَيِّدِهِمْ بَعْدَ غَيْبَةٍ لِيَجْزِيَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فِي مُدَّةِ الْمَغِيبِ . وَشَاعَ هَذَا التَّمْثِيلُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341269مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَفِي الْقُرْآنِ
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=15لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ( حَتَّى ) ابْتِدَائِيَّةٌ ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ الْغَايَةَ وَإِنَّمَا تُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنُ الْحَاجِبِ ، أَيْ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً . وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ
[ ص: 190 ] مَجِيءَ السَّاعَةِ غَايَةً لِلْخُسْرَانِ ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْخُسْرَانَ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ خُسْرَانُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخْسَرْ شَيْئًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ عَلَى ( حَتَّى ) الِابْتِدَائِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=25وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ . وَسَيَجِيءُ لِمَعْنَى ( حَتَّى ) زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِلَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
وَالسَّاعَةُ : عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ .
وَالْبَغْتَةُ : فَعْلَةٌ مِنَ الْبَغْتِ ، وَهُوَ مَصْدَرٌ . بَغَتَهُ الْأَمْرُ إِذَا نَزَلَ بِهِ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ وَلَا إِعْلَامٍ وَلَا ظُهُورِ شَبَحٍ أَوْ نَحْوِهِ . فَفِي الْبَغْتِ مَعْنَى الْمَجِيءِ عَنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ . وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ ، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يَجِيءُ حَالًا إِذَا كَانَ ظَاهِرًا تَأْوِيلُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ .
وَقَوْلُهُ ( قَالُوا ) جَوَابُ ( إِذَا ) . وَ ( يَا حَسْرَتَنَا ) نِدَاءٌ مَقْصُودٌ بِهِ التَّعَجُّبُ وَالتَّنَدُّمُ ، وَهُوَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ نِدَاءٌ لِلْحَسْرَةِ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ شَخْصٍ يَسْمَعُ وَيُنَادَى لِيَحْضُرَ كَأَنَّهُ يَقُولُ : يَا حَسْرَةً احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : يَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ كَذَا ، وَيَا أَسَفِي أَوْ يَا أَسَفَا ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا .
وَأَضَافُوا الْحَسْرَةَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَكُونَ تَحَسُّرُهُمْ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ ، فَهُمُ الْمُتَحَسِّرُونَ وَالْمُتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْقَائِلِ : يَا حَسْرَةً ، فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ تَحَسَّرَ لِأَجْلِ غَيْرِهِ فَهُوَ يَتَحَسَّرُ لِحَالِ غَيْرِهِ . وَلِذَلِكَ تَجِيءُ مَعَهُ ( عَلَى ) الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُتَحَسَّرِ مِنْ أَجْلِهِ دَاخِلَةً عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ التَّحَسُّرِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=30يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ، فَأَمَّا مَعَ ( يَا حَسْرَتِي ، أَوْ يَا حَسْرَتَا ) فَإِنَّمَا تَجِيءُ ( عَلَى ) دَاخِلَةً عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي التَّحَسُّرِ كَمَا هُنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : يَا وَيْلِي وَيَا وَيْلَتِي ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّ الْوَيْلَ لِغَيْرِهِ قَالَ : وَيْلَكَ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=17وَيْلَكَ آمِنْ وَيَقُولُونَ : وَيْلٌ لَكَ .
[ ص: 191 ] وَالْحَسْرَةُ : النَّدَمُ الشَّدِيدُ ، وَهُوَ التَّلَهُّفُ ، وَهِيَ فَعْلَةٌ مِنْ حَسِرَ يَحْسَرُ حَسَرًا ، مِنْ بَابِ فَرِحَ ، وَيُقَالُ : تَحَسَّرَ تَحَسُّرًا . وَالْعَرَبُ يُعَامِلُونَ اسْمَ الْمَرَّةِ مُعَامَلَةَ مُطْلَقِ الْمَصْدَرِ غَيْرَ مُلَاحَظِينَ فِيهِ مَعْنَى الْمَرَّةِ ، وَلَكِنَّهُمْ يُلَاحِظُونَ الْمَصْدَرَ فِي ضِمْنِ فَرْدٍ ، كَمَدْلُولِ لَامِ الْحَقِيقَةِ ، وَلِذَلِكَ يَحْسُنُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي مَقَامِ النِّدَاءِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ اسْمٌ لِلْحَاصِلِ بِالْفِعْلِ بِخِلَافِ اسْمِ الْمَرَّةِ فَهُوَ اسْمٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَصْدَرِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْمَاهِيَّةِ .
وَ ( فَرَّطْنَا ) أَضَعْنَا . يُقَالُ : فَرَّطَ فِي الْأَمْرِ إِذَا تَهَاوَنَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَحْفَظْهُ ، أَوْ فِي اكْتِسَابِهِ حَتَّى فَاتَهُ وَأَفْلَتَ مِنْهُ . وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ . وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ ( فِي ) فَيُقَالُ فَرَّطَ فِي مَالِهِ ، إِذَا أَضَاعَهُ .
وَ ( مَا ) مَوْصُولَةٌ مَاصِدْقُهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ . وَمَفْعُولُ فَرَّطْنَا مَحْذُوفٌ يَعُودُ إِلَى ( مَا ) . تَقْدِيرُهُ : مَا فَرَّطْنَاهُ وَهُمْ عَامٌّ مِثْلَ مُعَادِهِ ، أَيْ نَدِمْنَا عَلَى إِضَاعَةِ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْفَعَنَا فَفَرَطْنَاهُ ، وَضَمِيرُ فِيهَا عَائِدٌ إِلَى السَّاعَةِ . وَ ( فِي ) تَعْلِيلِيَّةٌ ، أَيْ مَا فَوَّتْنَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لِأَجْلِ نَفْعِ هَذِهِ السَّاعَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ( فِي ) لِلتَّعْدِيَةِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَى الضَّمِيرِ ، أَيْ فِي خَيْرَاتِهَا . وَالْمَعْنَى عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي السَّاعَةِ ، يَعْنُونَ مَا شَاهَدُوهُ مِنْ نَجَاةِ وَنَعِيمِ أَهْلِ الْفَلَّاحِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ ( فِيهَا ) عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَيَكُونَ ( فِي ) لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ .
وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ قَالُوا ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ فَهُمْ بَيْنَ تَلَهُّفٍ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْإِيمَانِ وَبَيْنَ مُقَاسَاةِ الْعَذَابِ عَلَى الْأَوْزَارِ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا مَحْرُومِينَ مِنْ خَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَحَسْبُ ؛ بَلْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُتْعَبِينَ مُثْقَلِينَ بِالْعَذَابِ .
وَالْأَوْزَارُ جَمْعُ وِزْرٍ بِكَسْرِ الْوَاوِ ، وَهُوَ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ ، وَفِعْلُهُ وَزَرَ يَزِرُ إِذَا حَمَلَ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ . وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=164وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَأُطْلِقَ الْوِزْرُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْجِنَايَةِ لِثِقَلِ عَاقِبَتِهَا عَلَى جَانِيهَا .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ عَنَتِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ ذُنُوبِهِمْ
[ ص: 192 ] بِحَالِ مَنْ يَحْمِلُ حِمْلًا ثَقِيلًا . وَذَكَرَ عَلَى ظُهُورِهِمْ هُنَا مُبَالَغَةً فِي تَمْثِيلِ الْحَالَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=30وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ . فَذَكَرَ الْأَيْدِي لِأَنَّ الْكَسْبَ يَكُونُ بِالْيَدِ ، فَهُوَ يُشْبِهُ تَخْيِيلَ الِاسْتِعَارَةِ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى التَّخْيِيلُ فِي التَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّ مَا يُذْكَرُ فِيهَا صَالِحٌ لِاعْتِبَارِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْهَيْئَةِ ، فَإِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الظَّهْرِ مُؤْذِنٌ بِنِهَايَةِ ثِقَلِ الْمَحْمُولِ عَلَى الْحَامِلِ .
وَمِنْ لَطَائِفِ التَّوْجِيهِ وَضْعُ لَفْظِ الْأَوْزَارِ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ ; فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ وَبَيْنَ الذُّنُوبِ ، وَهُمْ إِنَّمَا وَقَعُوا فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ مِنْ جَرَّاءِ ذُنُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَهَا لِأَنَّهُمْ يُعَانُونَ شِدَّةَ آلَامِهَا .
وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ تَذْيِيلٌ .
وَ ( أَلَا ) حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ يُفِيدُ التَّنْبِيهَ لِلْعِنَايَةِ بِالْخَبَرِ . وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=31سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) إِنْشَاءُ ذَمٍّ . وَ ( يَزِرُونَ ) بِمَعْنَى يَحْمِلُونَ ، أَيْ سَاءَ مَا يُمَثَّلُ مِنْ حَالِهِمْ بِالْحَمْلِ . وَ ( مَا يَزِرُونَ ) فَاعِلُ سَاءَ . وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ ، تَقْدِيرُهُ : حِمْلُهُمْ .