[ ص: 88 ] إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة
إن يشأ يذهبكم فإن المشيئة تشتمل على حالين : حال ترك إهلاكهم ، وحال إيقاعه ، فأفادت هذه الجملة أن مشيئة الله تعلقت بإيقاع ما أوعدهم به من الإذهاب ، ولك أن تجعل الجملة استئنافا بيانيا ، جوابا عن أن يقول سائل من المشركين متوركا بالوعيد : إذا كنا قد أمهلنا وأخر عنا الاستئصال فقد أفلتنا من الوعيد ، ولعله يلقاه أقوام بعدنا ، فورد قوله :
إن ما توعدون لآت مورد الجواب عن هذا السؤال الناشئ عن الكلام السابق بتحقيق أن ما أوعد به المشركون واقع لا محالة وإن تأخر .
والتأكد بـ ( إن ) مناسب لمقام المتردد الطالب ، وزيادة التأكد بلام الابتداء ؛ لأنهم متوغلون في إنكار تحقق ما أوعدوا به من حصول الوعيد واستسخارهم به ، فإنهم قالوا :
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم إفحاما للرسول صلى الله عليه وسلم وإظهارا لتخلف وعيده .
وبناء توعدون للمجهول يصحح أن يكون الفعل مضارع وعد يعد ، أو مضارع أوعد يوعد ، والمتبادر هو الأول ، ومن بديع الفصاحة اختيار بنائه للمجهول ، ليصلح لفظه لحال المؤمنين والمشركين ، ولو بني للمعلوم لتعين فيه أحد الأمرين ؛ بأن يقال : إن ما نعدكم ، أو إن ما نوعدكم ، وهذا من بديع التوجيه المقصود منه أن يأخذ منه كل فريق من السامعين ما يليق بحاله ، ومعلوم أن وعيد المشركين يستلزم وعدا للمؤمنين ، والمقصود الأهم هو وعيد المشركين ، فلذلك عقب الكلام بقوله :
وما أنتم بمعجزين فذلك كالترشيح لأحد المحتملين من الكلام الموجه .
[ ص: 89 ] الإتيان مستعار للحصول تشبيها للشيء الموعود به المنتظر وقوعه بالشخص الغائب المنتظر إتيانه ، كما تقدم في قوله تعالى :
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة في هذه السورة .
وحقيقة المعجز هو الذي يجعل طالب شيء عاجزا عن نواله ؛ أي : غير قادرين ، ويستعمل مجازا في معنى الإفلات من تناول طالبه كما قال
إياس بن قبيصة الطائي :
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة فهل تعجزني بقعة من بقاعها
أي : فلا تفلت مني بقعة منها لا يصل إليها العدو الذي يطالبني .
فالمعنى : وما أنتم بمعجزي ؛ أي : بمفلتين من وعيدي ، أو بخارجين عن قدرتي ، وهو صالح للاحتمالين .
ومجيء الجملة اسمية في قوله :
وما أنتم بمعجزين لإفادة الثبات والدوام ، في نسبة المسند للمسند إليه ، وهي نسبة نفيه عن المسند إليه ؛ لأن الخصوصيات التي تعتبر في حالة الإثبات تعتبر في حالة النفي ؛ إذ النفي إنما هو كيفية للنسبة ، والخصوصيات مقتضيات أحوال التركيب ، وليس يختلف النفي عن الإثبات إلا في اعتبار القيود الزائدة على أصل التركيب ، فإن النفي يعتبر متوجها إليها خاصة ، وهي قيود مفاهيم المخالفة ، وإلا لبطلت خصوصيات كثيرة مفروضة مع الإثبات ، إذا صار الكلام المشتمل عليها منفيا ، مثل إفادة التجدد في المسند الفعلي في قول
جؤية بن النضر :
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلق
إذ لا فرق في إفادة التجدد بين هذا المصراع ، وبين أن تقول : ألف الدرهم صرتنا ، وكذلك قوله تعالى :
لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن فإن الأول يفيد أن نفي حلهن حكم متجدد لا ينسخ ، فهما اعتباران ، وقد أشرت إلى بعض هذا عند تفسير قوله تعالى :
والله لا يحب كل كفار أثيم في سورة البقرة .