[ ص: 460 ] ولا تكونوا أول كافر به
جمع الضمير في تكونوا مع إفراد لفظ كافر يدل على أن المراد من الكافر فريق ثبت له الكفر لا فرد واحد فإضافة أول إلى كافر بيانية تفيد معنى فريق هو أول فرق الكافرين . والضمير المجرور في به ظاهره أنه عائد إلى " ما أنزلت " لأنه المقصود . وهو عطف على جملة
وآمنوا بما أنزلت وهو ارتقاء في الدعوة واستجلاب القلوب فإنه لما أمرهم بالإيمان بالقرآن وكانت صيغة الأمر محتملة لطلب الامتثال بالفور أو بالتأخير وكانوا معروفين بشدة العداوة لدين الإسلام ، عطف على أمرهم بالإيمان بالقرآن نهيهم عن أن يكونوا أول كافر بالقرآن وذلك يصدق بمعان بعضها يستفاد من حق التركيب وبعضها من لوازمه وبعضها من مستتبعاته وكلها تحتملها الآية ، فالمعنى الأول أن يحمل قوله
أول كافر على حقيقة معنى الأول وهو السابق غيره فيحصل من الجملة المعطوفة تأكيد الجملة المعطوف عليها بدلالة المطابقة
فالنهي عن الكفر بالقرآن يؤكد قوله
وآمنوا بما أنزلت ثم إن وصف أول يشعر بتقييد النهي بالوصف ولكن قرينة السياق دالة على أنه لا يراد تقييد النهي عن الكفر بحالة أوليتهم في الكفر ، إذ ليس المقصود منه مجرد النهي عن أن يكونوا مبادرين بالكفر ولا سابقين به غيرهم لقلة جدوى ذلك ولكن المقصود الأهم منه أن يكونوا أول المؤمنين فأفيد ذلك بطريق الكناية التلويحية فإن وصف أول أصله السابق غيره في عمل يعمل أو شيء يذكر فالسبق والمبادرة من لوازم معنى الأولى لأنها بعض مدلول اللفظ ولما كان الإيمان والكفر نقيضين إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر كان النهي عن أن يكونوا أول الكافرين يستلزم أن يكونوا أول المؤمنين .
والمقصود من النهي توبيخهم على تأخرهم في اتباع دعوة الإسلام فيكون هذا المركب قد كني به عن معنيين من ملزوماته ، هما معنى المبادرة إلى الإسلام ومعنى التوبيخ المكنى عنه بالنهي ، فيكون معنى النهي مرادا ولازمه وهو الأمر بالمبادرة بالإيمان مرادا وهو المقصود فيكون الكلام كناية اجتمع فيها الملزوم واللازم معا ، فباعتبار اللازم يكون النهي في معنى الأمر فيتأكد به الأمر الذي قبله كأنه قيل
وآمنوا بما أنزلت وكونوا أول المؤمنين ؛ وباعتبار الملزوم يكون نهيا عن الكفر بعد الأمر بالإيمان فيحصل بذلك غرضان .
[ ص: 461 ] وهذه الكناية تعريضية لأن غرض المعنى الكنائي غير غرض المعنى الصريح وهذا هو الذي استخلصته في تحقيق معنى التعريض وهو أن يكون غرض الحكم المشار إليه به غير غرض الحكم المصرح به ، أو أن يكون المحكوم له به غير المحكوم له بالصريح . وهذا الوجه مستند إلى الظاهر والتحقيق بين متناثر كلامهم في التعريض المعروف من الكناية ويندفع بهذا سؤالان مستقلان أحدهما ناشئ عما قبله : الأول كيف يصح النهي عن أن يكونوا أول الكافرين ومفهومه يقتضي أنهم لو كفروا به ثانيا لما كان كفرهم منهيا عنه . الثاني أنه قد سبقهم
أهل مكة للكفر لأن آية البقرة في خطاب
اليهود نزلت في
المدينة فقد تحقق أن
اليهود لم يكونوا أول الكافرين فالنهي عن أن يكونوا أول الكافرين تحصيل حاصل .
ووجه الاندفاع أن المقصود الأهم هو المعنى التعريضي وهو يقوم قرينة على أن القصد من النهي أن لا يكونوا من المبادرين بالكفر أي لا يكونوا متأخرين في الإيمان وهذا أول الوجوه في تفسير الآية عند صاحب الكشاف واختاره
البيضاوي فاقتصر عليه .
واعلم أن التعريض في خصوص وصف ( أول ) وأما أصل النهي عن أن يكونوا كافرين به فذلك مدلول اللفظ حقيقة وصريحا . والتعريض من قبيل الكناية التلويحية لما فيه من خفاء الانتقال من المعنى إلى لوازمه . وبعض التعريض يحصل من قرائن الأحوال عند النطق بالكلام ولعل هذا لا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا كناية وهو من مستتبعات التراكيب ودلالتها العقلية وسيجيء لهذا زيادة بيان عند قوله تعالى
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء في هذه السورة .
المعنى الثاني أن يكون المقصود التعريض بالمشركين وأنهم أشد من
اليهود كفرا أي لا تكونوا في عدادهم ولعل هذا هو مراد صاحب الكشاف من قوله ويجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من
أهل مكة ولا يريد أنه تشبيه بليغ وإن كان كلامه يوهمه وسكت عنه شراحه .
[ ص: 462 ] المعنى الثالث : أن يراد من ( أول ) المبادر والمستعجل لأنه من لوازم الأولية كما قال تعالى
فأنا أول العابدين وقال
سعيد بن مقروم الضبي :
فدعوا نزال فكنت أول نازل وعلام أركبه إذا لم أنزل
فقوله " أول نازل " لا يريد تحقيق أنه لم ينزل أحد قبله وإنما أراد أنه بادر مع الناس فإن الشأن أنه إذا دعا القوم نزال أن ينزل السامعون كلهم ولكنه أراد أنه ممن لم يتربص . ويكون المعنى ولا تعجلوا بالتصريح بالكفر قبل التأمل ، فالمراد من الكفر هنا التصميم عليه لا البقاء على ما كانوا عليه فتكون الكناية بالمفرد وهو كلمة أول .
المعنى الرابع : أن يكون ( أول ) كناية عن القدوة في الأمر لأن الرئيس وصاحب اللواء ونحوهما يتقدمون القوم ، قال تعالى
يقدم قومه يوم القيامة وقال
خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي :
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها
أي الأجدر والناصر لسنة . والمعنى ولا تكونوا مقرين للكافرين بكفركم فإنهم إن شاهدوا كفركم كفروا اقتداء بكم وهذا أيضا كناية بالمفرد . المعنى الخامس : أن يكون المراد الأول بالنسبة إلى الدعوة الثانية وهي الدعوة في
المدينة لأن ما بعد الهجرة هو حال ثانية للإسلام ، فيها ظهر الإسلام متميزا مستقلا .
هذا كله مبني على جعل الضمير المجرور بالباء في قوله (
كافر به ) عائدا على ( ما أنزلت ) أي القرآن وهو الظاهر لأنه ذكر في مقابل الإيمان به . وقيل إن الضمير عائد على ما معكم وهو التوراة قال
ابن عطية : وعلى هذا القول يجيء أول كافر مستقيما على ظاهره في الأولية ولا يخفى أن هذا الوجه تكلف لأنه مئول بأن كفرهم بالقرآن وهو الذي جاء على نحو ما وصفت التوراة وكتب أنبيائهم في بشاراتهم بنبيء وكتاب يكونان من بعد
موسى فإذا كذبوا بذلك فقد كفروا بصحة ما في التوراة فيفضي إلى الكفر بما معهم .
قال
التفتزاني : وهذا كله إنما يتم لو كان كفرهم به بمعنى ادعائهم أنه كله كذب وأما إذا كفروا بكونه كلام الله واعتقدوا أن فيه صدقا وكذبا فلا يتم ، ولهذا كان هذا الوجه مرجوحا ، ورده
عبد الحكيم بما لا يليق به .
[ ص: 463 ] وبهذا كله يتضح أن قوله
ولا تكونوا أول كافر به لا يتوهم منه أن يكون النفي منصبا على القيد بحيث يفيد عدم النهي عن أن يكونوا ثاني كافر أو ثالث كافر بسبب القرينة الظاهرة وأن أول كافر ليس من قبيل الوصف الملازم حتى يستوي في نفي موصوفه أن يذكر الوصف وأن لا يذكر كقول
امرئ القيس :
على لاحب لا يهتدى بمناره
وقول
nindex.php?page=showalam&ids=12572ابن أحمر :
ولا ترى الضب بها ينجحر
كما سيأتي في قوله تعالى
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا عقب هذا .