وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم الواو في قوله
وإلى ثمود مثلها في قوله
وإلى عاد أخاهم هودا . وكذلك القول في تفسيرها إلى قوله تعالى ( من إله غيره )
وثمود أمة عظيمة من العرب البائدة وهم أبناء
ثمود بن جاثر - بجيم ومثلثة كما في القاموس - بن إرم بن سام بن نوح فيلتقون مع
عاد في " إرم "
[ ص: 216 ] وكانت مساكنهم بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - بين
الحجاز والشام ، وهو المكان المسمى الآن مدائن
صالح وسمي في حديث غزوة
تبوك :
حجر ثمود .
وصالح هو ابن عبيل - بلام في آخره وبفتح العين - ابن آسف بن ماشج أو شالخ بن عبيل بن جاثر - ويقال كاثر - ابن ثمود . وفي بعض هذه الأسماء اختلاف في حروفها في كتب التاريخ وغيرها أحسبه من التحريف وهي غير مضبوطة سوى عبيل فإنه مضبوط في سميه الذي هو جد قبيلة ، كما في القاموس .
وثمود هنا ممنوع من الصرف لأن المراد به القبيلة لا جدها . وأسماء القبائل ممنوعة من الصرف على اعتبار التأنيث مع العلمية وهو الغالب في القرآن ، وقد ورد في بعض آيات القرآن مصروفا كما في قوله تعالى :
ألا إن ثمودا كفروا ربهم على اعتبار الحي فينتفي موجب منع الصرف لأن الاسم عربي .
وقوله :
ما لكم من إله غيره يدل على أن
ثمود كانوا مشركين ، وقد صرح بذلك في آيات سورة هود وغيرها . والظاهر أنهم عبدوا الأصنام التي عبدتها
عاد لأن
ثمود وعادا أبناء نسب واحد ، فيشبه أن تكون عقائدهم متماثلة . وقد قال المفسرون : أن
ثمود قامت بعد
عاد فنمت وعظمت واتسعت حضارتها ، وكانوا موحدين ، ولعلهم اتعظوا بما حل
بعاد ، ثم طالت مدتهم ونعم عيشهم فعتوا ونسوا نعمة الله وعبدوا الأصنام
فأرسل الله إليهم صالحا رسولا يدعوهم إلى التوحيد فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون ، وعصاه سادتهم وكبراؤهم ، وذكر في آية سورة هود أن قومه لم يغلظوا له القول كما أغلظت
قوم نوح وقوم هود لرسولهم ، فقد :
قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب . وتدل آيات القرآن وما فسرت به من القصص على أن صالحا أجلهم مدة للتأمل وجعل الناقة لهم آية ، وأنهم تاركوها ولم يهيجوها زمنا طويلا .
[ ص: 217 ] فقد أشعرت مجادلتهم صالحا في أمر الدين على أن التعقل في المجادلة أخذ يدب في نفوس البشر ، وأن غلواءهم في المكابرة أخذت تقصر; وأن قناة بأسهم ابتدأت تلين ، للفرق الواضح بين جواب
قوم نوح وقوم هود ، وبين جواب
قوم صالح . ومن أجل ذلك أمهلهم الله ومادهم لينظروا ويفكروا فيما يدعوهم إليه نبيهم وليزنوا أمرهم ، وجعل لهم الانكفاف عن مس الناقة بسوء علامة على امتداد الإمهال لأن انكفافهم ذلك علامة على أن نفوسهم لم تحنق على رسولهم ، فرجاؤه إيمانهم مستمر ، والإمهال لهم أقطع لعذرهم ، وأنهض بالحجة عليهم ، فلذلك أخر الله العذاب عنهم إكراما لنبيهم الحريص على إيمانهم بقدر الطاقة ، كما قال تعالى
لنوح : أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون .
وجملة :
قد جاءتكم بينة من ربكم إلخ ، هي من مقول صالح في وقت غير الوقت الذي ابتدأ فيه بالدعوة ، لأنه قد طوي هنا جواب قومه وسؤالهم إياه آية كما دلت عليه آيات سورة هود وسورة الشعراء ، ففي سورة هود :
قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا الآية ، وفي سورة الشعراء :
قالوا إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بأية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب الآية .
فجملة :
قد جاءتكم بينة من ربكم تعليل لجملة :
اعبدوا الله ، أي اعبدوه وحده لأنه جعل لكم آية على تصديقي فيما بلغت لكم ، وعلى انفراده بالتصرف في المخلوقات .
وقوله :
هذه ناقة الله يقتضي أن الناقة كانت حاضرة عند قوله :
قد جاءتكم بينة من ربكم لأنها نفس الآية .
[ ص: 218 ] والبينة : الحجة على صدق الدعوى ، فهي ترادف الآية ، وقد عبر بها عن الآية في قوله تعالى :
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة .
و هذه إشارة إلى
الناقة التي جعلها الله آية لصدق صالح ولما كانت الناقة هي البينة كانت جملة :
هذه ناقة الله لكم آية منزلة من التي قبلها منزلة عطف البيان .
وقوله آية حال من اسم الإشارة في قوله
هذه ناقة الله لأن اسم الإشارة فيه معنى الفعل ، واقترانه بحرف التنبيه يقوي شبهه بالفعل ، فلذلك يكون عاملا في الحال بالاتفاق ، وتقدم عند قوله :
ذلك نتلوه عليك من الآيات في سورة آل عمران ، وسنذكر قصة في هذا عند تفسير قوله تعالى :
وهذا بعلي شيخا في سورة هود .
وأكدت جملة :
قد جاءتكم بينة ، وزادت على التأكيد إفادة ما اقتضاه قوله لكم من التخصيص وتثبيت أنها آية ، وذلك معنى اللام ، أي هي آية مقنعة لكم ومجعولة لأجلكم .
فقوله : لكم ظرف مستقر في موضع الحال من آية ، وأصله صفة فلما قدم على موصوفه صار حالا ، وتقديمه للاهتمام بأنها كافية لهم على ما فيهم من عناد .
وإضافة ناقة إلى اسم الله تعالى تشريف لها لأن الله أمر بالإحسان إليها وعدم التعرض لها بسوء ، وعظم حرمتها ، كما يقال :
الكعبة بيت الله ، أو لأنها وجدت بكيفية خارقة للعادة ، فلانتفاء ما الشأن أن تضاف إليه من أسباب وجود أمثالها أضيفت إلى اسم الجلالة كما قيل :
عيسى - عليه السلام - كلمة الله .
وأما إضافة : أرض إلى اسم الجلالة فالمقصود منه أن للناقة حقا في الأكل من نبات الأرض لأن الأرض لله وتلك الناقة من مخلوقاته فلها الحق
[ ص: 219 ] في الانتفاع بما يصلح لانتفاعها .
وقوله هذا مقدمة لقوله
ولا تمسوها بسوء أي بسوء يعوقها عن الرعي إما بموت أو بجرح ، وإما لأنهم لما كذبوه وكذبوا معجزته راموا منع الناقة من الرعي لتموت جوعا على معنى الإلجاء الناشئ عن الجهالة .
والأرض هنا مراد بها جنس الأرض كما تقتضيه الإضافة .
وقد جعل الله سلامة تلك الناقة علامة على سلامتهم من عذاب الاستئصال للحكمة التي قدمتها آنفا ، وأن ما أوصى الله به في شأنها شبيه بالحرم ، وشبيه بحمى الملوك لما فيه من الدلالة على تعظيم نفوس القوم لمن تنسب إليه تلك الحرمة ، ولذلك قال لهم
صالح :
فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء لأنهم إذا مسها أحد بسوء ، عن رضى من البقية ، فقد دلوا على أنهم خلعوا حرمة الله تعالى وحنقوا على رسوله - عليه السلام .
وجزم تأكل على أن أصله جواب الأمر بتقدير : إن تذروها تأكل ، فالمعنى على الرفع والاستعمال على الجزم ، كما في قوله تعالى :
قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة أي يقيمون وهو كثير في الكلام ، ويشبه أن أصل جزم أمثاله في الكلام العربي على التوهم لوجود فعل الطلب قبل فعل صالح للجزم ، ولعل منه قوله تعالى :
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا .
وانتصب قوله فيأخذكم في جواب النهي ليعتبر الجواب للمنهي عنه لأن حرف النهي لا أثر له : أي إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب .
وأنيط النهي بالمس بالسوء لأن المس يصدق على أقل اتصال شيء بالجسم ، فكل ما ينالها مما يراد منه السوء فهو منهي عنه ، وذلك لأن الحيوان لا يسوؤه إلا ما فيه ألم لذاته ، لأنه لا يفقه المعاني النفسانية .
والباء في قوله : بسوء للملابسة ، وهي في موضع الحال من فاعل تمسوها أي بقصد سوء .