(
ولكن البر من آمن بالله ) ، البر : معنى من المعاني ، فلا يكون خبره الذوات إلا مجازا ، فإما أن يجعل البر هو نفس من آمن على طريق المبالغة ، قاله
أبو عبيدة ، والمعنى : ولكن البار . وإما أن يكون على حذف من الأول ، أي : ولكن ذا البر ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج . أو من الثاني أي : بر من آمن ، قاله قطرب ، وعلى هذا خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، قال في كتابه : وقال - جل وعز : (
ولكن البر من آمن ) ، وإنما هو : ولكن البر بر من آمن بالله . انتهى . وإنما اختار هذا
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : لأن السابق إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قبل المشرق والمغرب ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى ، ونظير ذلك : ليس الكرم أن تبذل درهما ، ولكن الكرم بذل الآلاف ، فلا يناسب : ولكن الكريم من يبذل الآلاف إلا إن كان قبله : ليس الكريم بباذل درهم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن " ولكن البر " بفتح الباء ، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل ، تقول : بررت أبر فأنا بر وبار ، قيل : فبني تارة على فعل نحو : كهل وصعب ، وتارة على فاعل ، والأولى ادعاء حذف الألف من البر ، ومثله : سر ، وقر ، ورب ، أي : سار ، وقار ، وبار ، وراب .
وقال
الفراء : " من آمن " معناه الإيمان ، لما وقع " من " موقع المصدر جعل خبرا للأول ، كأنه قال : ولكن البر الإيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل ، وأنشد
الفراء :
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى ندي
جعل نبات اللحية خبرا للفتى ، والمعنى : لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى ، وقرأ
نافع ،
وابن عامر : و " لكن " بسكون النون خفيفة ، ورفع البر ، وقرأ الباقون بفتح النون مشددة ونصب البر ، والإعراب واضح ، وقد تقدم نظير القراءتين في : (
ولكن الشياطين كفروا ) .
(
واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) ، ذكر في هذه الآية أركان الإيمان مصرحا بها ، كما جاء في
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373885حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره " ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر : لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه ، ومضمون الآية : أن البر لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب ، بل بمجموع أمور . أحدها : الإيمان بالله ، وأهل الكتاب أخلوا بذلك ، أما
[ ص: 4 ] اليهود فللتجسيم ولقولهم : (
عزير ابن الله ) ، وأما
النصارى فلقولهم : (
المسيح ابن الله ) .
الثاني : الإيمان بالله واليوم الآخر ،
واليهود أخلوا به : حيث قالوا : (
لن تمسنا النار إلا أياما ) ،
والنصارى أنكروا المعاد الجسماني .
والثالث :
الإيمان بالملائكة ،
واليهود عادوا
جبريل .
والرابع :
الإيمان بكتب الله ،
والنصارى واليهود أنكروا القرآن .
والخامس :
الإيمان بالنبيين ،
واليهود قتلوهم ، وكلا الفريقين من أهل الكتاب طعنا في نبوة
محمد .
والسادس : بذل الأموال على وفق أمر الله ،
واليهود ألقوا الشبه لأخذ الأموال .
والسابع : إقامة الصلاة والزكاة ،
واليهود يمتنعون منها .
والثامن : الوفاء بالعهد ،
واليهود نقضوه .
وهذا النفي السابق ، والاستدراك ، لا يحمل على ظاهرهما : لأنه نفى أن يكون التوجه إلى القبلة برا ، ثم حكم بأن البر أمور : أحدها : الصلاة ، ولا بد فيها من استقبال القبلة ، فيحمل النفي للبر على نفي مجموع البر ، لا على نفي أصله ، أي : ليس البر كله هو هذا ، ولكن البر هو ما ذكر ، ويحمل على نفي أصل البر : لأن استقبالهم المشرق والمغرب بعد النسخ كان إثما وفجورا ، فلا يعد في البر ، أو لأن استقبال القبلة لا يكون برا إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى ، وإنما يكون برا مع الإيمان وتلك الشرائط .
وقدم الملائكة والكتب على الرسل ، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة وصدق الكتب لا يحصل إلا بواسطة الرسل : لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي : لأن الملك يوجد أولا ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي لا الترتيب الذهني . وقدم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل : لأن المكلف له مبدأ ، ووسط ، ومنتهى ، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات ، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة ، وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، والموحى به - وهو الكتاب - والموحى إليه - وهو الرسول . وقدم الإيمان على أفعال الجوارح ، وهو : إيتاء المال والصلاة والزكاة : لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح ، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان . وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان ، حصلت حقيقة الإيمان : لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بوجوده وقدمه وبقائه وعلمه بكل المعلومات ، وتعلق قدرته بكل الممكنات وإرادته ، وكونه سميعا وبصيرا متكلما ، وكونه منزها عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ، والإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم من أحكام المعاد ، والثواب ، والعقاب ، وما يتصل بذلك . والإيمان بالملائكة يستدعي صحة أدائهم الرسالة إلى الأنبياء وغير ذلك من أحوال الملائكة . والإيمان بالكتاب يقتضي التصديق بكتب الله المنزلة .
والإيمان بالنبيين يقتضي التصديق بصحة نبوتهم وشرائعهم .
قال
الراغب : فإن قيل لم قدم هنا ذكر اليوم الآخر وأخره في قوله : (
ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ) قيل : يجوز ذلك ، مع أن الواو لا تقتضي ترتيبا من أجل أن الكافر لا يعرف الآخرة ، ولا يعنى بها وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده ، فأخر ذكره . ولما ذكر حال المؤمنين ، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة ، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى ، ثم أمر الآخرة ، فقدم ذكره تنبيها على أن البر مراعاة الله ومراعاة الآخرة ، ثم مراعاة غيرهما . انتهى كلامه .