الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وآتى المال على حبه ) إيتاء المال هنا قيل : كان واجبا ، ثم نسخ بالزكاة ، وضعف بأنه جمع هنا بينه وبين الزكاة . وقيل : هي الزكاة ، وبين بذلك مصارفها ، وضعف بعطف الزكاة عليه ، فدل على أنه غيرها . وقيل : هي نوافل الصدقات والمبار ، وضعف بقوله آخر الآية : ( وأولئك هم المتقون ) ، وقف التقوى عليه ، ولو كان ندبا لما وقف التقوى ، وهذا التضعيف ليس بشيء : لأن المشار إليهم بالتقوى من اتصف بمجموع الأوصاف [ ص: 5 ] السابقة المشتملة على المفروض والمندوب ، فلم يفرد التقوى ، ثم اتصف بالمندوب فقط ، ولا وقفها عليه ، بل لو جاء ذكر التقوى لمن فعل المندوب ساغ ذلك : لأنه إذا أطاع الله في المندوب فلأن يطيعه في المفروض أحرى وأولى . وقيل : هو حق واجب غير الزكاة .

قال الشعبي : إن في المال حقا سوى الزكاة وتلا هذه الآية . وقيل : رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام الطعام للمضطر ، فأما ما روي على أن الزكاة تنحت كل حق ، فيحمل على الحقوق المقدرة . أما ما لا يكون مقدرا فغير منسوخ ، بدليل وجوب التصدق عند الضرورة ، ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك ، وذلك كله غير مقدر . ( على حبه ) متعلق بـ ( آتى ) وهو حال ، والمعنى : أنه يعطي المال محبا له ، أي : في حال محبته للمال واختياره وإيثاره ، وهذا وصف عظيم ، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشيء تعلق المحب بمحبوبه ، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله ، كما جاء : أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، والظاهر أن الضمير في : ( حبه ) ، عائد على المال : لأنه أقرب مذكور ، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل ، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتي ، كما فسرناه ، وقيل : الفاعل المؤتون ، أي : حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم ، وإلى الأول ذهب ابن عباس ، أي : أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره ، فقول ابن الفضل : أنه أعاده على المصدر المفهوم من " آتى " ، أي : على حب الإيتاء ، بعيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به ، وعلى أبعد من المال ، وأما المعنى فلأن من فعل شيئا وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك : لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها ، وقال زهير :


تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله



وقول من أعاده على الله تعالى أبعد : لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب ، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافا للفاعل ، وهو أيضا بعيد . قال ابن عطية : ويجيء قوله : ( على حبه ) اعتراضا بليغا أثناء القول انتهى كلامه . فإن كان أراد - بالاعتراض - المصطلح عليه في النحو فليس كذلك : لأن شرط ذلك أن تكون جملة ، وأن لا يكون لها محل من الإعراب ، وهذه ليست بجملة ، ولها محل من الإعراب . وإن أراد بالاعتراض فصلا بين المفعولين بالحال فيصح ، لكن فيه إلباس ، فكان ينبغي أن يقول فصلا بليغا بين أثناء القول .

( ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ) ، أما ذوو القربى فالأولى حملها على العموم ، وهو : من تقرب إليك بولادة ، ولا وجه لقصر ذلك على الرحم المحرم ، كما ذهب إليه قوم : لأن الحرمة حكم شرعي ، وأما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب ، وإن كان من يطلق عليه ذلك يتفاوت في القرب والبعد . وقد رويت أحاديث كثيرة في صلة القرابة ، وقد تقدم لنا الكلام على ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، في قوله ( وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا ) فأغنى عن إعادته . و ( ذوي القربى ) وما بعده من المعطوفات ، هو المفعول الأول على مذهب الجمهور ، و ( المال ) هو المفعول الثاني . ولما كان المقصود الأعظم هو إيتاء المال على حبه قدم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى . وأما على مذهب السهيلي فإن ( المال ) عنده هو المفعول الأول ، و ( ذوي القربى ) ، وما بعده هو المفعول الثاني ، فأتى التقديم على أصله عنده . و ( اليتامى ) معطوف على ( ذوي القربى ) حمله بعضهم على حذف ، أي ذوي اليتامى ، قال : لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه ، ومتى فعل ذلك أخطأ ، فإن كان مراهقا عارفا بمواقع حقه ، والصدقة تؤكل أو تلبس ، جاز دفعها إليه ، وهذا على قول من خص اليتيم بغير البالغ ، وأما من البالغ والصغير عنده ينطلق عليهما يتيم ، فيدفع للبالغ ولولي [ ص: 6 ] الصغير ، انتهى .

ولا يحتاج إلى تقدير هذا المضاف لصدق : آتيت زيدا مالا ، وإن لم يباشر هو الأخذ بنفسه بل بوكيله . ( وابن السبيل ) الضيف ، قاله : قتادة ، وابن جبير ، والضحاك ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج : أو المسافر يمر عليك من بلد إلى بلد ، قاله : مجاهد ، وقتادة أيضا ، والربيع بن أنس . وسمي ابن السبيل بملازمته السبيل ، وهو الطريق ، كما قيل لطائر يلازم الماء ابن ماء ، ولمن مرت عليه دهور : ابن الليالي والأيام . وقيل : سمي ابن سبيل : لأن السبيل تبرزه ، شبه إبرازها له بالولادة ، فأطلقت عليه البنوة مجازا ، أو المنقطع في بلد دون بلده ، وبين البلد الذي انقطع فيه وبين بلده مسافة بعيدة ، قاله : أبو حنيفة ، وأحمد ، وابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى : أو الذي يريد سفرا ولا يجد نفقة ، قاله : الماوردي وغيره عن الشافعي . والسائلون : هم المستطعمون ، وهو الذي تدعوه الضرورة إلى السؤال في سد خلته ، إذ لا تباح له المسألة إلا عند ذلك . ومن جعل إيتاء المال لهؤلاء ليس هو الزكاة ، أجاز إيتاءه للمسلم والكافر ، وقد ورد في الحديث ما يدل على ذم السؤال ويحمل على غير حال الضرورة .

و ( الرقاب ) : هم المكاتبون يعانون في فك رقابهم ، قاله : علي وابن عباس ، والحسن ، وابن زيد ، والشافعي . أو عبيد يشترون ويعتقون ، قاله : مجاهد ، ومالك ، وأبو عبيد ، وأبو ثور . وروي عن أحمد القولان السابقان . أو الأسارى يفدون وتفك رقابهم من الأسر : وقيل : هؤلاء الأصناف الثلاثة ، وهو الظاهر . فإن كان هذا الإيتاء هو الزكاة فاختلفوا ، فقيل : لا يجوز إلا في إعانة المكاتبين ، وقيل : يجوز في ذلك ، وفيمن يشتريه فيعتقه . وإن كان غير الزكاة فيجوز الأمران ، وجاء هذا الترتيب فيمن يؤتي المال تقديما ، الأولى فالأولى : لأن الفقير القريب أولى بالصدقة من غيره للجمع فيها بين الصلة والصدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليها ، ولذلك يستحق بها الإرث ، فلذلك قدم ثم أتبع باليتامى : لأنه منقطع الحيلة من كل الوجوه لصغره ، ثم أتبع بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ، ثم بابن السبيل لأنه قد تشتد حاجته في الرجوع إلى أهله ، ثم بالسائلين وفي الرقاب : لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره . قال الراغب : اختير هذا الترتيب لما كان أولى من يتفقد الإنسان لمعروفه أقاربه ، فكان تقديمه أولى ، ثم عقبه باليتامى ، والناس في المكاسب ثلاثة : معيل غير معول ، ومعول معيل ، ومعول غير معيل . واليتيم : معول غير معيل ، فمواساته بعد الأقارب أولى . ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا ، ثم ذكر ابن السبيل الذي يكون له مال غائب ، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب ، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم ، فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم ذكره عليه ، انتهى كلامه .

وأجمع المسلمون على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة وضرورة بعد أداء الزكاة ، فإنه يجب صرف المال إليها . وقال مالك : يجب على الناس فك أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، واختلفوا في اليتيم : هل يعطى من صدقة التطوع بمجرد اليتم على جهة الصلة وإن كان غنيا ؟ أو لا يعطي حتى يكون فقيرا ؟ قولان لأهل العلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية