(
والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) : "
والموفون " معطوف على من آمن ، وقيل : رفعه على إضمار " وهم الموفون " ، والعامل في " إذا " " الموفون " ، والمعنى : أنه لا يتأخر الإيفاء بالعهد عن وقت المعاهدة ، وقد تقدم الكلام على الإيفاء والعهد في قوله : (
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) ، وفي مصحف
عبد الله " والموفين " ، نصبا على المدح . ( وقرأ )
الجحدري ، " بعهودهم " على الجمع .
(
والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) ، انتصب " والصابرين " على المدح ، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم ، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو .
( وقرأ )
الحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش ،
ويعقوب : " والصابرون " ، عطفا على " الموفون " ، وقال
الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها : لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف ، والإبلاغ في القول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل : لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من
[ ص: 8 ] الكلام ، وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا وجملة واحدة . انتهى كلامه .
( قال )
الراغب : وإنما لم يقل : ووفى ، كما قال : وأقام ، لأمرين :
أحدهما : اللفظ ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح ، والثاني : أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة ، وغير مستفاد إلا منها ، والحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر الوفاء بالعهد ، وهو مما تقضي به العقود المجردة ، صار عطفه على الأول أحسن ، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه جامعا للفضائل ، إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ ، غير إعرابه تنبيها على هذا المقصد ، انتهى كلامه .
واتفقوا على تفسير قوله (
حين فتلقى ) أنه : حالة القتال . واختلف المفسرون في البأساء والضراء ، فأكثرهم على أن البأساء هو الفقر وأن الضراء الزمانة في الجسد ، وإن اختلفت عبارتهم في ذلك ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
وقتادة ،
والربيع ،
والضحاك .
وقيل : البأساء : القتال ، والضراء : الحصار ، ذكره
الماوردي . وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد ، فذكر أولا الصبر على الفقر ، ثم الصبر على المرض وهو أشد من الفقر ، ثم الصبر على القتال وهو أشد من الفقر والمرض . قال
الراغب : استوعب أنواع الصبر : لأنه إما أن يكون فيما يحتاج إليه من القوت فلا يناله ، وهو : " البأساء " ، أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم ، وهو : " الضراء " ، أو في مدافعة مؤذيه ، وهو : " حين البأس " ، انتهى كلامه .
وعدى " الصابرين " إلى "
البأساء والضراء " بفي : لأنه لا يمدح الإنسان على ذلك إلا إذا صار له الفقر والمرض كالظرف ، وأما الفقر وقتا ما ، أو المرض وقتا ما ، فلا يكاد يمدح الإنسان بالصبر على ذلك : لأن ذلك قل أن يخلو منه أحد . وأما القتال فعدى الصابرين إلى ظرف زمانه : لأنها حالة لا تكاد تدوم ، وفيها الزمان الطويل في أغلب أحوال القتال ، فلم تكن حالة القتال تعدى إليها بفي المقتضية للظرفية الحسية التي نزل المعنى المعقول فيها ، كالجرم المحسوس ، وعطف هذه الصفات في هذه الآية بالواو يدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها ، فمن قام بواحدة منها لم يوصف بالبر ، ولذلك خص بعض العلماء هذا بالأنبياء - عليهم السلام - قال : لأن غيرهم لا يجتمع فيه هذه الأوصاف كلها ، وقد تقدم الكلام على ذلك .
(
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) أشار : بأولئك إلى الذين جمعوا تلك الأوصاف الجلية ، من الاتصاف بالإيمان وما بعده ، وقد تقدم لنا أن اسم الإشارة يؤتى به لهذا المعنى ، أي : يشار به إلى من جمع عدة أوصاف سابقة ، كقوله : (
أولئك على هدى من ربهم ) . والصدق هنا يحتمل أن يراد به الصدق في الأقوال فيكون مقابل الكذب ، والمعنى : أنهم يطابق أقوالهم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان والخبر فإذا أخبروا بشيء كان صدقا لا يتطرق إليه الكذب ، ومنه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373887 " لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق ، حتى يكتب عند الله صادقا ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابا " .
ويحتمل أن يراد بالصدق : الصدق في الأحوال ، وهو مقابل الرياء ، أي : أخلصوا أعمالهم لله تعالى دون رياء ولا سمعة ، بل قصدوا وجه الله تعالى ، وكانوا عند الظن بهم ، كما تقول صدقني الرمح ، أي : وجدته عند اختباره كما أختار وكما أظن به ، والتقوى هنا اتقاء عذاب الله بتجنب معاصيه ، وامتثال طاعته . وتنوع هنا الخبر عن أولئك ، فأخبر عن أولئك الأول : بالذين صدقوا ، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به ، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر ، وأخبر عن أولئك الثاني ، بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت ، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد ، بل صار سجية لهم ووصفا لازما ، ولكونه أيضا وقع فاصلة آية : لأنه لو كان فعلا ماضيا لما كان يقع فاصلة .