صفحة جزء
( وقد أمروا أن يكفروا به ) جملة حالية من قوله : يريدون . و ( يريدون ) حال ؛ فهي حال متداخلة . وأعاد الضمير هنا مذكرا ، وأعاده مؤنثا في قوله : اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها . وقرأ بها هنا عباس بن الفضل على التأنيث ، وأعاد الضمير كضمير جمع العقلاء في قوله : ( أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم ) .

( ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) ضلالا ليس جاريا على ( يضلهم ) ؛ فيحتمل أن يكون جعل مكان ( إضلال ) ، ويحتمل أن يكون مصدر المطاوع ( يضلهم ) ; أي فيضلون ضلالا بعيدا . وقرأ الجمهور : بما أنزل إليك ، وما أنزل مبنيا للمفعول فيهما . وقرئ : مبنيا للفاعل فيهما .

( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ) قرأ الحسن : تعالوا بضم اللام . قال أبو الفتح : وجهها أن لام الفعل من تعاليت حذفت تخفيفا ، وضمت اللام التي هي عين الفعل ; لوقوع واو الجمع بعدها . ونظر الزمخشري حذف لام الكلمة هنا بحذفها في قولهم : ما باليت به بالة ؛ وأصله : بالية كعافية . وكمذهب الكسائي في ( آية ) أن أصلها ( أيلة ) فحذفت اللام . قال : ومنه قول أهل مكة : تعالي بكسر اللام للمرأة . وفي شعر الحمداني :


تعالي أقاسمك الهموم تعالي

والوجه : فتح اللام انتهى . وقول الزمخشري : قول أهل مكة ( تعالي ) يحتمل أن تكون عربية قديمة ، ويحتمل أن يكون ذلك مما غيرته عن وجهه العربي فلا يكون عربيا . وأما قوله في شعر الحمداني فقد صرح بعضهم بأنه أبو فراس . وطالعت ديوانه جمع الحسين بن خالويه فلم أجد ذلك فيه . وبنو حمدان كثيرون ، وفيهم عدة من الشعراء ؛ وعلى تقدير ثبوت ذلك في شعرهم لا حجة فيه ; لأنه لا يستشهد بكلام المولدين . والظاهر من قوله : رأيت المنافقين أنها من رؤية العين ، صدوا مجاهرة ، وتصريحا ؛ ويحتمل أن يكون من رؤية القلب ; أي علمت . ويكون صدهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه . وصدودا : مصدر لـ ( صد ) ، وهو هنا متعد بحرف الجر ، وقد يتعدى بنفسه نحو : فصدهم عن السبيل . وقياس صد في المصدر فعل نحو : صده صدا . وحكى ابن عطية : أن ( صدودا ) هنا ليس مصدرا والمصدر عنده ( صد ) .

( فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) قال الزجاج : كيف في موضع نصب تقديره : كيف تراهم ، أو في موضع رفع ; أي فكيف صنيعهم والمصيبة . قال الزجاج : قتل عمر الذي رد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل كل مصيبة تصيب المنافقين في الدنيا والآخرة ، ثم عاد الكلام إلى ما سبق يخبر عن فعلهم ، فقال : ثم جاءوك يحلفون بالله . وقيل هي هدم مسجد الضرار ؛ وفيه نزلت الآية ، حلفوا دفاعا عن أنفسهم ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة ، وموافقة الكتاب . وقيل ترك الاستعانة [ ص: 281 ] بهم ، وما يلحقهم من الذل من قوله : فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ، والذي قدمت أيديهم ردهم حكم الرسول أو معاصيهم المتقدمة أو نفاقهم ، واستهزاؤهم ثلاثة أقوال . وقيل في قوله : إلا إحسانا وتوفيقا ; أي ما أردنا بطلب دم صاحبنا الذي قتله عمر إلا إحسانا إلينا ، وما يوافق الحق في أمرنا . وقيل ما أردنا بالرفع إلى عمر إلا إحسانا إلى صاحبنا بحكومة العدل ، وتوفيقا بينه وبين خصمه . وقيل جاءوا يعتذرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من محاكمتهم إلى غيره ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحسانا بالتقريب في الحكم ، وتوفيقا بين الخصوم دون الحمل على الحق . وفي قوله : فكيف إذا أصابتهم مصيبة وعيد لهم على فعلهم ، وأنهم سيندمون عليه عند حلول بأس الله تعالى حين لا ينفعهم الندم ، ولا يغني عنهم الاعتذار .

( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ) أي : يعلم ما في قلوبهم من النفاق . والمعنى : يعلمه فيجازيهم عليه ، أو يجازيهم على ما أسروه من الكفر ، وأظهروه من الحلف الكاذب . وعبر بالعلم عن المجازاة . فأعرض عنهم : أي عن معاتبتهم وشغل البال بهم ، وقبول إيمانهم وأعذارهم . وقيل : المعنى بالإعراض معاملتهم بالرفق والأناة ، ففي ذلك تأديب لهم ؛ وهو عتابهم . ولا يراد بالإعراض الهجر والقطيعة ؛ فإن قوله : وعظهم يمنع من ذلك . وعظهم : أي خوفهم بعذاب الله وازجرهم . وأنكر عليهم أن يعودوا لمثل ما فعلوا .

والقول البليغ هو الزجر والردع . قال الحسن : هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق . ويتعلق قوله : في أنفسهم بقوله : قل على أحد معنيين ؛ أي : قل لهم خاليا بهم لا يكون معهم أحد من غيرهم مسارا ؛ لأن النصح إذا كان في السر كان أنجح ، وكان بصدد أن يقبل سريعا . ومعنى بليغا : أي مؤثرا فيهم . أو قل لهم في معنى أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولا يبلغ منهم ما يزجرهم عن العود إلى ما فعلوا .

وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق قوله : في أنفسهم ؟ قلت : بقوله : بليغا أي : قل لهم قولا بليغا في أنفسهم ؛ مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ، ويستشعرون منه الخوف استشعارا ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق ، وأطلع قرنه ، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله ، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين . وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان ، وإسراركم الكفر وإضماره ؛ فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف ، انتهى كلامه . وتعليقه في أنفسهم بقوله : بليغا لا يجوز على مذهب البصريين ، لأن معمول الصفة لا يتقدم عندهم على الموصوف . لو قلت : هذا رجل [ ص: 282 ] ضارب زيدا لم يجز أن تقول : هذا زيدا رجل ضارب ، لأن حق المعمول ألا يحل إلا في موضع يحل فيه العامل ؛ ومعلوم أن النعت لا يتقدم على المنعوت ؛ لأنه تابع ، والتابع في ذلك بمذهب الكوفيين . وأما ما ذكره الزمخشري بعد ذلك من الكلام المسهب فهو من نوع الخطابة ، وتحميل لفظ القرآن ما لا يحتمله ، وتقويل الله تعالى ما لم يقله ، وتلك عادته في تفسيره وهو تكثير الألفاظ ، ونسبة أشياء إلى الله تعالى لم يقلها الله تعالى ، ولا دل عليها اللفظ دلالة واضحة ، والتفسير في الحقيقة إنما هو شرح اللفظ المستغلق عند السامع مما هو واضح عنده مما يرادفه أو يقاربه ، أو له دلالة عليه بإحدى طرق الدلالات . وحكي عن مجاهد أن قوله : في أنفسهم متعلق بقوله : مصيبة ، وهو مؤخر بمعنى التقديم ؛ وهذا ينزه مجاهد أن يقوله ، فإنه في غاية الفساد .

التالي السابق


الخدمات العلمية