(
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) لما قال لهم
موسى : (
أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) وعلموا أن ما أخبرهم به
موسى من أمر الله إياهم بذبح البقرة كان عزيمة وطلبا ، جاز ما قالوا له ذلك ، وهذا القول أيضا فيه تعنيت منهم وقلة طواعية ، إذ لو امتثلوا فذبحوا بقرة ، لكانوا قد أتوا بالمأمور ، ولكن شددوا ، فشدد الله عليهم ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وأبو العالية وغيرهما . وكسر العين من ادع لغة
بني عامر ، وقد سبق ذكر ذلك في (
فادع لنا ربك يخرج لنا ) ، وجزم " يبين " على جواب الأمر . و " ما هي " : مبتدأ وخبر . وقرأ
عبد الله : سل لنا ربك يبين ما هي ، ومفعول " يبين " : هي الجملة من المبتدأ والخبر ، والفعل معلق ؛ لأن معنى " يبين لنا " يعلمنا ما هي ؛ لأن التبيين يلزمه الإعلام ، والضمير في " هي " عائد على البقرة السابق ذكرها ، وكأنهم قالوا : " يبين لنا ما " البقرة التي أمرنا بذبحها ، ولم يريدوا تبيين ماهية البقرة ، وإنما هو سؤال عن الوصف ، فيكون على حذف مضاف ، التقدير : ما صفتها ؟ ولذلك أجيبوا بالوصف ، وهو قوله : (
لا فارض ولا بكر ) . وإنما سألوا على طريق التعنت ، كما قدمناه ، أو على طريق التعجب من بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا ، إذ ذاك في غاية الاستغراب والخروج عن المألوف ، أو على طريق أنهم ظنوا قوله : (
أن تذبحوا بقرة ) من باب المجمل ، فسألوا تبيين ذلك ، إذ تبيين المجمل واجب ، أو على رجاء أن ينسخ عنهم تكليف الذبح ، لثقل ذلك عليهم ، لكونهم لم يعلموا المعنى الذي لأجله أمروا بذلك . وتقدم معنى قولهم : (
ادع لنا ربك ) كيف خصوا لفظ الرب مضافا إلى
موسى ، وذلك لما علموا له عند الله من الخصوصية والمنزلة الرفيعة . وقيل : إنما سألوا
موسى استرشادا لا عنادا ، إذ لو كان عنادا لكفروا به وعجلت عقوبتهم ، كما عجلت في قولهم : (
أرنا الله جهرة ) ، وفي عبادتهم العجل ، وفي امتناعهم من قبول التوراة ، وقولهم : (
فاذهب أنت وربك فقاتلا ) . وفي الكلام حذف تقديره : فدعا
موسى ربه فأجابه .
(
قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر ) : صفة لـ " بقرة " ، والصفة إذا كانت منفية بلا وجب تكرارها ، كما قال :
وفتيان صدق لا ضعاف ولا عزل
فإن جاءت غير مكررة ، فبابها الشعر ، ومن جعل ذلك من الوصف بالمجمل ، فقدر مبتدأ محذوفا ، أي : لا هي فارض ولا بكر ، فقد أبعد ؛ لأن الأصل الوصف بالمفرد ، والأصل أن لا حذف .
( عوان ) : تفسير لما تضمنه قوله : (
لا فارض ولا بكر ) .
( بين ذلك ) : يقتضي " بين " أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه ، ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد ، فقيل : أشير بذلك إلى مفرد ، فكأنه قيل : عوان بين ما ذكر ، فصورته صورة المفرد ، وهو في المعنى مثنى ؛ لأن تثنية اسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعا حقيقة ، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، قالوا : وقد أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة ، قال
رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
قيل له : كيف تقول كأنه ؟ وهلا قلت : كأنها ، فيعود على الخطوط ، أو كأنهما ، فيعود على السواد والبلق ؟ فقال : أردت كان ذاك
وقال
لبيد :
إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل
قيل : أراد وكلا ذينك ، فأطلق المفرد وأراد به المثنى ، فيحتمل أن تكون الآية من ذلك ، فيكون أطلق
[ ص: 252 ] ذلك ويريد به ذينك ، وهذا مجمل غير الأول . والذي أذهب إليه غير ما ذكروا ، وهو أن يكون ذلك مما حذف منه المعطوف ، لدلالة المعنى عليه ، التقدير : عوان بين ذلك وهذا ، أي بين الفارض والبكر ، فيكون نظير قول الشاعر :
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل
أي : فما كان بين الخير وباغيه ، فحذف لفهم المعنى . ومنه (
سرابيل تقيكم الحر ) أي والبرد . وإنما جعلت عوانا لأنه أكمل أحوالها ، فالصغيرة ناقصة لتجاوزها حالته .
(
فافعلوا ما تؤمرون ) : أي من ذبح البقرة ، ولا تكرروا السؤال ، ولا تعنتوا في أمر ما أمرتم بذبحه . ويحتمل أن تكون هذه الجملة من قول الله ، ويحتمل أن تكون من قول
موسى ، وهو الأظهر . حرضهم على امتثال ما أمروا به ، شفقة منه . وما موصولة ، والعائد محذوف تقديره : ما تؤمرونه ، وحذف الفاعل للعلم به ، إذ تقدم أن الله يأمركم ، ولتناسب أواخر الآي ، كما قصد تناسب الإعراب في أواخر الأبيات في قوله :
ولا بد يوما أن ترد الودائع
إذ آخر البيت الذي قبل هذا قوله :
وما يدرون أين المصارع
وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية ، أي : فافعلوا أمركم ، ويكون المصدر بمعنى المفعول ، أي مأموركم ، وفيه بعد .