وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون . النتق الجذب بشدة ، وفسره بعضهم بغايته ، وهو القلع ، وتقول العرب : نتقت الزبدة من فم القربة ، والناتق الرحم التي تقلع الولد من الرجل . وقال
النابغة :
لم يحرموا حسن الفداء وأمهم طفحت عليك بناتق مذكار
وفي الحديث "
عليكم بزواج الأبكار فإنهن أنتق أرحاما وأطيب أفواها وأرضى باليسير . الانسلاخ
[ ص: 419 ] التعري من الشيء حتى لا يعلق به منه شيء ، ومنه انسلخت الحية من جلدها .
الكلب حيوان معروف ويجمع في القلة على أكلب ، وفي الكثرة على كلاب ، وشذوا في هذا الجمع فجمعوه بالألف والتاء ، فقالوا : كلابات ، وتقدمت هذه المادة في : مكلبين وكررناها لزيادة فائدة ، لهث الكلب يلهث بفتح الهاءين ماضيا ومضارعا ، والمصدر لهثا ولهثا بالضم : أخرج لسانه وهي حالة له في التعب والراحة والعطش والري بخلاف غيره من الحيوان فإنه لا يلهث إلا من إعياء وعطش ، لحد وألحد لغتان ، قيل : بمعنى واحد هو العدول عن الحق والإدخال فيه ما ليس منه ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12758ابن السكيت ، وقال غيره : العدول عن الاستقامة ، والرباعي أشهر في الاستعمال من الثلاثي ، وقال الشاعر :
ليس الأمير بالشحيح الملحد
ومنه لحد القبر ، وهو الميل إلى أحد شقيه ، ومن كلامهم ما فعل الواحد قالوا : لحده اللاحد ; وقيل : ألحد بمعنى مال وانحرف ، ولحد بمعنى ركن وانضوى ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ، متن متانة : اشتد وقوي ، أيان : ظرف زمان مبني لا يتصرف ، وأكثر استعماله في الاستفهام ، ويليه الاسم مرفوعا بالابتداء ، والفعل المضارع لا الماضي بخلاف متى فإنهما يليانه ، قال تعالى : أيان يبعثون و : أيان مرساها قال الشاعر :
أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لفعلها إبانا
وتستعمل في الجزاء فتجزم المضارعين ، وذلك قليل فيها ، ولم يحفظ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه لكن حفظه غيره ، وأنشدوا قول الشاعر :
إذا النعجة العجفاء باتت بقفرة فأيان ما تعدل بها الريح تنزل
وقال غيره :
أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا
وكسر فتحة همزتها لغة سليم ، وهي عندي حرف بسيط لا مركب ، وجامد لا مشتق ، وذكر صاحب كتاب اللوامح أن أيان في الأصل كان : أي أوان ، فلما كثر دوره حذفت الهمزة على غير قياس ولا عوض وقلبت الواو ياء ، فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفت إحداها ، فصارت على ما رأيت ، انتهى ، وزعم
أبو الفتح أنه فعلان وفعلال مشتق من أي : ومعناه : أي وقت ، وأي فعل ، من أويت إليه ; لأن البعض آو إلى الكل متساند إليه ، وامتنع أن يكون فعالا وفعالا من أين ; لأن أيان ظرف زمان ، وأين ظرف مكان ، فأوجب ذلك أن يكون من لفظ أي لزيادة النون ; ولأن أيان استفهام ، كما أن أيا كذلك ، والأصل عدم التركيب ، وفي أسماء الاستفهام والشرط الجمود كمتى وحيثما وأنى وإذا ، رسا يرسو ثبت . الحفي المستقصي للشيء المحتفل به المعتني ، وفلان حفي بي بار معتن . وقال الشاعر :
فلما التقينا بين السيف بيننا لسائلة عنا حفي سؤالها
وقال آخر :
سؤال حفي عن أخيه كأنه بذكرته وسنان أو متواسن
والإحفاء الاستقصاء ، ومنه إحفاء الشارب ، والحافي ، أي : حفيت قدميه للاستقصاء في السير ، والحفاوة : البر واللطف .
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم ، أي : جذبنا الجبل بشدة ، وفوقهم حال مقدرة والعامل فيها محذوف ، تقديره : كائنا فوقهم ; إذ كانت حالة النتق لم تقارن الفوقية ، لكنه صار فوقهم ، وقال
الحوفي وأبو البقاء : فوقهم ظرف لنتقنا ، ولا يمكن ذلك إلا إن ضمن نتقنا معنى فعل يمكن أن يعمل في فوقهم ، أي : رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله :
ورفعنا فوقهم الطور والجملة من قوله : كأنه ظلة في موضع الحال ، والمعنى : كأنه عليهم ظلة ، والظلة ما أظل من
[ ص: 420 ] سقيفة أو سحاب ، وينبغي أن يحمل التشبيه على أنه بظلة مخصوصة ; لأنه إذا كان كل ما أظل يسمى ظلة فالجبل فوقهم صار ظلة ، وإذا صار ظلة فكيف يشبه بظلة ؟ فالمعنى - والله أعلم - ، كأنه حالة ارتفاعه عليهم ظلة من الغمام ، وهي الظلة التي ليست تحتها عمد ، بل إمساكها بالقدرة الإلهية ، وإن كانت أجراما بخلاف الظلة الأرضية ، فإنها لا تكون إلا على عمد ، فلما دانت هذه الظلمة الأرضية فوقهم بلا عمد شبهت بظلة الغمام التي ليست بلا عمد ; وقيل : اعتاد البشر هذه الأجرام الأرضية ظللا ; إذ كانت على عمد ، فلما كان الجبل مرتفعا على غير عمد قيل : كأنه ظلة ، أي : كأنه على عمد ، وقرئ طلة بالطاء من أطل عليه ; إذا أشرف وظنوا هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين ، وقال المفسرون : معناه أيقنوا ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : علموا ، وليس كذلك ، بل هو غلبة ظن مع بقاء الرجاء ، إلا إن قيد ذلك بقيد أن لا يعقلوا التوراة ، فإنه يكون بمعنى الإتقان ، وتقدم ذكر سبب رفع الجبل فوقهم في تفسير قوله : ورفعنا فوقكم الطور في البقرة فأغنى عن إعادته ، وقد كرره المفسرون هنا
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وابن عطية وغيرهما ، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري هنا عند ذكر السبب أنه لما نشر
موسى - عليه السلام - الألواح وفيها كتاب الله تعالى لم يبق شجر ، ولا جبل ولا حجر إلا اهتز ، فلذلك لا ترى يهوديا يقرأ التوراة إلا اهتز وأنغض لها رأسه ، انتهى ، وقد سرت هذه النزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيت بديار
مصر تراهم في المكتب إذا قرأوا القرآن يهتزون ويحركون رءوسهم ، وأما في بلادنا بالأندلس والغرب فلو تحرك صغير عند قراءة القرآن أدبه مؤدب المكتب ، وقال له : لا تتحرك فتشبه اليهود في الدراسة .