المسألة السادسة
اعلم أن العلماء اختلفوا في من
ترك الصلاة عمدا تكاسلا حتى خرج وقتها وهو معترف بوجوبها ، هل يجب عليه قضاؤها أو لا يجب عليه ، فقد قدمنا خلاف العلماء في كفره ، فعلى القول بأنه كافر مرتد يجري على الخلاف في
المرتد ، هل يجب عليه قضاء ما فاته في زمن ردته أو لا يجب عليه .
واعلم أولا : أن الكافر تارة يكون كافرا أصليا لم يسبق عليه إسلام ، وتارة يكون كافرا بالردة عن دين الإسلام بعد أن كان مسلما .
أما
الكافر الأصلي فلا يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في حال كفره وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين ; لأن الله تعالى يقول :
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقد أسلم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير فلم يأمر أحدا منهم بقضاء شيء فائت في كفره .
وأما المرتد ففيه خلاف بين العلماء معروف ، قال بعض أهل العلم : لا يلزمه قضاء ما تركه في زمن ردته ، ولا في زمن إسلامه قبل ردته ; لأن الردة تحبط جميع عمله وتجعله كالكافر الأصلي عياذا بالله تعالى ، وإن كان قد حج حجة الإسلام أبطلتها ردته على هذا القول ، فعليه إعادتها إذا رجع إلى الإسلام ، وتمسك من قال بهذا بظاهر قوله تعالى :
لئن أشركت ليحبطن عملك الآية [ 39 \ 65 ] ، وقوله :
ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين [ 5 \ 5 ] ، وقال بعض أهل العلم : يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في زمن ردته وزمن إسلامه قبل ردته ، ولا تجب عليه إعادة حجة الإسلام ; لأن الردة لم تبطلها ، واحتج من قال بهذا بقوله تعالى :
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية [ 2 \ 217 ] ، فجعل
الموت على الكفر شرطا في حبوط العمل ، وبالأول قال
مالك ومن وافقه ، وبالثاني قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ومن وافقه ، وهما روايتان عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ومن وافقه في هذه المسألة أجرى على الأصول ، لوجوب
[ ص: 463 ] حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا .
وأما على قول الجمهور بأنه غير كافر فقد اختلفوا أيضا في وجوب القضاء عليه .
اعلم أولا أن علماء الأصول اختلفوا في
الأمر بالعبادة المؤقتة بوقت معين ، هل هو يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج وقتها من غير احتياج إلى أمر جديد بالقضاء أو لا يستلزم القضاء بعد خروج الوقت ، ولا بد للقضاء من أمر جديد ، فذهب
أبو بكر الرازي من الحنفية وفاقا لجمهور الحنفية إلى أن الأمر بالعبادة الموقتة يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج الوقت من غير احتياج إلى أمر جديد ، واستدلوا لذلك بقاعدة هي قولهم : الأمر بالمركب أمر بكل جزء من أجزائه ، فإذا تعذر بعض الأجزاء لزم فعل بعضها الذي لم يتعذر ، فالأمر بالعبادة الموقتة كالصلوات الخمس أمر بمركب من شيئين : الأول منهما : فعل العبادة ، والثاني : كونها مقترنة بالوقت المعين لها ، فإذا خرج الوقت تعذر أحدهما وهو الاقتران بالوقت المعين ، وبقي الآخر غير متعذر وهو فعل العبادة ، فيلزم من الأمر الأول فعل الجزء المقدور عليه ; لأن الأمر بالمركب أمر بأجزائه .
وهذا القول صدر به
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في ) روضة الناظر ( وعزاه هو
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي في ) المستصفى ( إلى بعض الفقهاء .
وذهب جمهور أهل الأصول إلى أن الأمر بالعبادة المؤقتة لا يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج الوقت واستدلوا لذلك بقاعدة ، وهي ) أن
تخصيص العبادة بوقت معين دون غيره من الأوقات لا يكون إلا لمصلحة تختص بذلك الوقت دون غيره ، إذ لو كانت المصلحة في غيره من الأوقات لما كان لتخصيصه دونها فائدة ( ، قالوا : فتخصيصه الصلوات بأوقاتها المعينة ، والصوم برمضان مثله كتخصيص الحج
بعرفات ، والزكاة بالمساكين والصلاة بالقبلة ، والقتل بالكافر ، ونحو ذلك .
واعلم أن الذين قالوا : إن الأمر لا يستلزم القضاء - وهم الجمهور - اختلفوا في
إعادة الصلاة المتروكة عمدا على قولهم : إن تاركها غير كافر ، فذهب جمهورهم إلى وجوب إعادتها ، قالوا : نحن نقول : إن القضاء لا بد له من أمر جديد ، ولكن الصلاة المتروكة عمدا جاءت على قضائها أدلة ، منها : قياس العامد على الناسي والنائم المنصوص على وجوب القضاء عليهما ، قالوا : فإذا وجب القضاء على النائم والناسي فهو واجب على العامد من باب أولى ، وقال
النووي في شرح المهذب : ومما يدل على وجوب القضاء حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في نهار [ ص: 464 ] رمضان أن يصوم يوما مع الكفارة ، أي : بدل اليوم الذي أفسده بالجماع عمدا ، رواه
البيهقي بإسناد جيد ، وروى
أبو داود نحوه . انتهى كلام
النووي .
ومن أقوى الأدلة على
وجوب القضاء على التارك عمدا عموم الحديث الصحيح الذي قدمناه في سورة " الإسراء " الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008263فدين الله أحق أن يقضى " ، فقوله : " دين الله " اسم جنس مضاف إلى معرفة فهو عام في كل دين ، كقوله :
وإن تعدوا نعمة الله الآية [ 14 \ 34 ] ، فهو عام في كل نعمة ، ولا شك أن
الصلاة المتروكة عمدا دين الله في ذمة تاركها ، فدل عموم الحديث على أنها حقيقة جديرة بأن تقضى ، ولا معارض لهذا العموم .
وقال بعض أهل العلم :
ليس على التارك للصلاة عمدا قضاء ; لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد ولم يأت أمر جديد بقضاء التارك عمدا ، وممن قال بهذا
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم واختاره
أبو العباس ابن تيمية رحمه الله ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :
والأمر لا يستلزم القضاء بل هو بالأمر الجديد جاء لأنه في زمن معين يجي لما عليه من نفع بني وخالف
الرازي إذ المركب لكل جزء حكمه ينسحب