الضمير في قوله " من بعدهم " راجع إلى النبيين المذكورين في قوله تعالى : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح الآية [ 19 \ 58 ] ، أي : فخلف من بعد أولئك النبيين خلف ، أي : أولاد سوء ، قال القرطبي رحمه الله في تفسير سورة " الأعراف " قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام : الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ، والخلف بفتح اللام : البدل ، ولدا كان أو غريبا ، وقال : الخلف بالفتح : الصالح ، وبالسكون : الطالح ، قال ابن الأعرابي لبيد :
[ ص: 444 ]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام : خلف ، ومنه المثل السائر " سكت ألفا ونطق خلفا " ، فخلف في الذم بالإسكان ، وخلف بالفتح في المدح ، هذا هو المستعمل المشهور ، قال صلى الله عليه وسلم : " " وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، قال يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله رضي الله عنه : حسان بن ثابتلنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
ومعنى الآية الكريمة أن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة : أنهم أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، واختلف أهل العلم في ، فقال بعضهم : المراد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها ، وممن يروى عنه هذا القول المراد بإضاعتهم الصلاة ، ابن مسعود والنخعي ، ، والقاسم بن مخيمرة ومجاهد ، وغيرهم ، وقال وعمر بن عبد العزيز القرطبي في تفسير هذه الآية : إن هذا القول هو الصحيح ، وقال بعضهم : إضاعتها الإخلال بشروطها ، وممن اختار هذا القول ، وقال بعضهم : المراد بإضاعتها جحد وجوبها ، ويروى هذا القول وما قبله عن الزجاج ، وقيل : إضاعتها : إقامتها في غير الجماعات ، وقيل : إضاعتها : تعطيل المساجد والاشتغال بالصنائع والأسباب . محمد بن كعب القرظي
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وكل هذه الأقوال تدخل في الآية ; لأن تأخيرها عن وقتها ، وعدم إقامتها في الجماعة ، والإخلال بشروطها ، وجحد وجوبها ، وتعطيل المساجد منها كل ذلك إضاعة لها ، وإن كانت أنواع الإضاعة تتفاوت ، واختلف العلماء أيضا في الخلف المذكورين من هم ؟ فقيل : هم اليهود ، ويروى عن ابن عباس ومقاتل ، وقيل : هم اليهود والنصارى ، ويروى عن ، وقيل : هم قوم من أمة السدي محمد صلى الله عليه وسلم يأتون عند ذهاب الصالحين منها ، يركب بعضهم بعضا في الأزقة زنى ، ويروى عن مجاهد وعطاء وقتادة ، وقيل : إنهم أهل الغرب ، وفيهم [ ص: 445 ] أقوال أخر . ومحمد بن كعب القرظي
قال مقيده عفا الله عنه : وكونهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس بوجيه عندي ; لأن قوله تعالى : فخلف من بعدهم [ 19 \ 59 ] ، صيغة تدل على الوقوع في الزمن الماضي ، ولا يمكن صرفها إلى المستقبل إلا بدليل يجب الرجوع إليه كما ترى ، والظاهر أنهم اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين خلفوا أنبياءهم وصالحيهم قبل نزول الآية ، فأضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات يدخلون في الذم والوعيد المذكور في هذه الآية ، واتباع الشهوات المذكور في الآية عام في اتباع كل مشتهى يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، وعن علي رضي الله عنه : من بنى المشيد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور فهو ممن اتبع الشهوات .
وقوله تعالى : فسوف يلقون غيا ، اعلم أولا أن العرب تطلق الغي على كل شر ، والرشاد على كل خير ، قال المرقش الأصغر :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
[ ص: 446 ] وجاء حديث مرفوع بمقتضى هذا القول من حديث أبي أمامة ، فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وابن عباس " كما في حديث إن غيا واد في جنهم ، وفي حديث ابن عباس أبي أمامة : أن غيا ، وأثاما : نهران في أسفل جهنم ، يسيل فيهما صديد أهل النار ، والظاهر أنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية حديث أبي أمامة الذي أشرنا له آنفا ، ثم قال : هذا حديث غريب ورفعه منكر ، وقيل : إن المعنى : صدي بن عجلان الباهلي فسوف يلقون غيا ، أي : ضلالا في الآخرة عن طريق الجنة ، ذكره ، وفيه أقوال أخر ، ومدار جميع الأقوال في ذلك على شيء واحد ، وهو : أن أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات سوف يلقون يوم القيامة عذابا عظيما . الزمخشري
فإذا عرفت كلام العلماء في هذه الآية الكريمة ، وأن الله تعالى توعد فيها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات بالغي الذي هو الشر العظيم والعذاب الأليم ، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في وتهديدهم : ذم الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون [ 107 \ 4 - 7 ] ، وقوله في ذم المنافقين : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ 4 \ 142 ] ، وقوله فيهم أيضا : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ 9 \ 54 ] ، وأشار في مواضع كثيرة إلى وتهديدهم ، كقوله تعالى : ذم الذين يتبعون الشهوات والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [ 47 \ 12 ] ، وقوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] ، وقوله تعالى : كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 46 - 47 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة : أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة ، ولا يتبعون الشهوات ، وقد أشار تعالى إلى هذا في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، إلى قوله : والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [ 23 \ 1 - 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وكقوله : [ ص: 447 ] وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 - 41 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .