قوله تعالى :
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق الأذان في اللغة : الإعلام : ومنه قوله تعالى :
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر وقول
الحارث بن حلزة :
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
والحج في اللغة : القصد وكثرة الاختلاف والتردد ، تقول العرب : حج بنو فلان فلانا : إذا قصدوه وأطالوا الاختلاف إليه والتردد عليه . ومنه قول
المخبل السعدي :
ألم تعلمي يا أم أسعد أنما تخاطأني ريب المنون لأكبرا
[ ص: 299 ] وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
قوله : يحجون ، يعني : يكثرون قصده والاختلاف إليه والتردد عليه . والسب بالكسر : العمامة . وعنى بكونهم يحجون عمامته : أنهم يحجونه ، فكنى عنه بالعمامة .
والرجال في الآية : جمع راجل ، وهو الماشي على رجليه ، والضامر : البعير ونحوه ، المهزول الذي أتعبه السفر . وقوله " يأتين " يعني : الضوامر المعبر عنها بلفظ : كل ضامر ; لأنه في معنى : وعلى ضوامر يأتين من كل فج عميق ; لأن لفظة " كل " صيغة عموم ، يشمل ضوامر كثيرة ، والفج : الطريق ، وجمعه : فجاج . ومنه قوله تعالى :
وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 \ 31 ] والعميق : البعيد ، ومنه قول الشاعر :
إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة يمد بها في السير أشعث شاحب
وأكثر ما يستعمل العمق في البعد سفلا ، تقول : بئر عميقة ؛ أي : بعيدة القعر ، والخطاب في قوله :
وأذن في الناس بالحج [ 22 \ 27 ]
لإبراهيم كما هو ظاهر من السياق . وهو قول الجمهور ، خلافا لمن زعم أن الخطاب لنبينا صلى الله عليه وعلى
إبراهيم وسلم ، وممن قال بذلك
الحسن ، ومال إليه
القرطبي ، فقوله تعالى :
وأذن في الناس بالحج ؛ أي : وأمرنا
إبراهيم أن أذن في الناس بالحج ؛ أي : أعلمهم ، وناد فيهم بالحج ؛ أي : بأن الله أوجب عليهم حج بيته الحرام .
وذكر المفسرون أنه لما أمره ربه أن يؤذن في الناس بالحج قال : يا رب ، كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ، فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه . وقيل : على الحجر . وقيل : على الصفا . وقيل : على
أبي قبيس ، وقال : يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فيقال : إن الجبال تواضعت ، حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك .
قال
ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام : هذا مضمون ما ورد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ومجاهد ،
وعكرمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف والله أعلم ، وأوردها
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم مطولة . انتهى منه .
وقوله تعالى :
يأتوك رجالا مجزوم في جواب الطلب ، وهو عند علماء العربية
[ ص: 300 ] مجزوم بشرط مقدر ، دل عليه الطلب على الأصح ؛ أي : إن تؤذن في الناس بالحج يأتوك . وإنما قال " يأتوك " لأن المدعو يتوجه نحو الداعي ، وإن كان إتيانهم في الحقيقة للحج ; لأن نداء
إبراهيم للحج ؛ أي : يأتوك ملبين دعوتك ، حاجين بيت الله الحرام ، كما ناديتهم لذلك .
وعلى قول
الحسن الذي ذكر عنه أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ففي هذه الآية دليل على وجوب الحج ، وعلى قول الجمهور ، فوجوب الحج بها على هذه الأمة مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، كما أوضحناه في سورة المائدة ، مع أنه دلت آيات أخر على أن الإيجاب المذكور على لسان
إبراهيم وقع مثله أيضا على لسان نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى :
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] ، وقوله تعالى :
وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] ، وقوله تعالى :
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] .
وقال
ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية . وقوله :
يأتوك رجالا وعلى كل ضامر الآية . قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن
الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا ; لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11882أبي العميس ، عن
أبي حلحلة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا ; لأن الله يقول
يأتوك رجالا .
والذي عليه الأكثرون : أن
الحج راكبا أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه حج راكبا مع كمال قوته صلى الله عليه وسلم . انتهى منه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : اعلم أنه قد تقرر في الأصول : أن منشأ الخلاف في هذه المسألة التي هي : هل الركوب في الحج أفضل أو المشي ، ونظائرها - كون
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى الجبلة والتشريع ثلاثة أقسام :
القسم الأول : هو الفعل الجبلي المحض : أعني الفعل الذي تقتضيه الجبلة البشرية بطبيعتها ؛ كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، فإن هذا لم يفعل للتشريع والتأسي ، فلا يقول أحد : أنا أجلس وأقوم تقربا لله واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم لأنه كان يقوم ويجلس ؛ لأنه لم يفعل ذلك للتشريع والتأسي . وبعضهم يقول : فعله الجبلي يقتضي الجواز ، وبعضهم
[ ص: 301 ] يقول : يقتضي الندب . والظاهر ما ذكرنا من أنه لم يفعل للتشريع ، ولكنه يدل على الجواز .
القسم الثاني : هو الفعل التشريعي المحض . وهو الذي فعل لأجل التأسي والتشريع ، كأفعال الصلاة وأفعال الحج مع قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007269صلوا كما رأيتموني أصلي " وقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444خذوا عني مناسككم " .
القسم الثالث : وهو المقصود هنا هو الفعل المحتمل للجبلي والتشريعي . وضابطه : أن تكون الجبلة البشرية تقضيه بطبيعتها ، ولكنه وقع متعلقا بعبادة بأن وقع فيها أو في وسيلتها ، كالركوب في الحج ، فإن ركوبه صلى الله عليه وسلم في حجه محتمل للجبلة ; لأن الجبلة البشرية تقتضي الركوب ، كما كان يركب صلى الله عليه وسلم في أسفاره غير متعبد بذلك الركوب ، بل لاقتضاء الجبلة إياه ، ومحتمل للشرعي ; لأنه صلى الله عليه وسلم فعله في حال تلبسه بالحج ، وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444 " خذوا عني مناسككم " . ومن فروع هذه المسألة : جلسة الاستراحة في الصلاة ، والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير التي ذهب فيها إلى صلاة العيد ، والضجعة على الشق الأيمن ، بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح ، ودخول
مكة من
كداء - بالفتح والمد - والخروج من
كدى - بالضم والقصر - والنزول
بالمحصب بعد النفر من
منى ، ونحو ذلك .
ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم ; لاحتمالها للجبلي والتشريعي ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :
وفعله المركوز في الجبله كالأكل والشرب فليس مله
من غير لمح الوصف والذي احتمل شرعا ففيه قل تردد حصل
فالحج راكبا عليه يجري كضجعة بعد صلاة الفجر
ومشهور مذهب
مالك : أن الركوب في الحج أفضل ، إلا في الطواف والسعي ، فالمشي فيهما واجب .
وقال
سند واللخمي من المالكية : إن المشي أفضل للمشقة ، وركوبه صلى الله عليه وسلم جبلي لا تشريعي .
وما ذكرنا عن
مالك من أن الركوب في الحج أفضل من المشي ، هو قول أكثر أهل العلم ، وبه قال
أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وغيرهما .
قال
النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أن الركوب أفضل .
[ ص: 302 ] قال
العبدري : وبه قال أكثر الفقهاء ، وقال
داود : ماشيا أفضل ، واحتج بحديث
عائشة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008445أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " ولكنها على قدر نفقتك ، أو : نصبك " رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم ، وفي رواية صحيحة : " على قدر عنائك ونصبك " وروى
البيهقي بإسناده ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : ما آسي على شيء ما آسي أني لم أحج ماشيا ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ما ندمت على شيء فاتني في شبابي ، إلا أني لم أحج ماشيا ، ولقد حج
الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا . وإن النجائب لتقاد معه ، ولقد قاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات ، حتى كان يعطي الخف ، ويمسك النعل . انتهى محل الغرض منه ، والحديث المرفوع عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في فضل الحج ماشيا : ضعيف ، وحديث
عائشة المتفق عليه الذي أشار إليه
النووي يقوي حجة من قال بأن المشي في الحج أفضل من الركوب ; لأنه أكثر نصبا وعناء . ولفظ
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : " ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك " ، ولفظ
مسلم : " ولكنها على قدر نصبك " ، أو قال : " نفقتك " والنصب : التعب والمشقة .