صفحة جزء
الفرع الثاني عشر : قد قدمنا أن مما يمنع بسبب الإحرام حلق شعر الرأس ; لقوله [ ص: 39 ] تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، فإن حلق شعر رأسه لأجل مرض ، أو أذى ، ككثرة القمل في رأسه ، فقد نص تعالى على ما يلزمه بقوله : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] .

وهذه الآية الكريمة نزلت في كعب بن عجرة - رضي الله عنه - والتحقيق الذي لا شك فيه : أن الثلاثة المذكورة في الآية على سبيل التخيير بينها ; لأن لفظة " أو " في قوله : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك حرف تخيير ، والتحقيق : أن الصيام المذكور ثلاثة أيام ، وأن الصدقة المذكورة ثلاثة آصع بين ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وما سوى هذا فهو خلاف التحقيق .

وقد روى الشيخان في صحيحيهما ، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال : كان بي أذى من رأسي ، فحملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : " ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى ، أتجد شاة " ؟ قلت : لا . فنزلت الآية : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك قال : " هو صوم ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين نصف صاع نصف صاع طعاما لكل مسكين " وفي رواية : " أتى علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية فقال : " كأن هوام رأسك تؤذيك " ؟ فقلت : أجل . قال : " فاحلقه ، واذبح شاة ، أو صم ثلاثة أيام ، أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين " رواه مسلم ، وأحمد ، وأبو داود . ولأبي داود في رواية " فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " احلق رأسك ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، فرقا من زبيب ، أو انسك شاة ، فحلقت رأسي ثم نسكت " وفي رواية عند البخاري ، عن كعب بن عجرة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " لعلك آذاك هوامك " ؟ قال : نعم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " احلق رأسك ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك بشاة " وفي رواية عند البخاري أيضا ، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال : " وقف علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ، ورأسي يتهافت قملا فقال : " يؤذيك هوامك " ؟ قلت : نعم . قال : " فاحلق رأسك ، أو احلق " قال : في نزلت هذه الآية : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه إلى آخرها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صم ثلاثة أيام ، أو تصدق بفرق بين ستة ، أو انسك بما تيسر " وفي رواية عند البخاري أيضا " فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقا بين ستة ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام ، وبعض هذه الروايات في صحيح مسلم وفيه غيرها بمعناها ، [ ص: 40 ] والفرق ثلاثة آصع .

فهذه النصوص الصحيحة الصريحة : مبينة غاية البيان آية الفدية ، موضحة : أن الصيام المذكور في الآية ثلاثة أيام ، وأن الصدقة فيها ثلاثة آصع بين ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وأن النسك فيها ما تيسر شاة فما فوقها ، وأن ذلك على سبيل التخيير بين الثلاثة ، كما هو نص الآية ، والأحاديث المذكورة ، وهذا لا ينبغي العدول عنه ; لدلالة القرآن ، والسنة الصحيحة عليه ، وهو قول جماهير العلماء .

وبه تعلم أن قول الحسن ، والثوري ، وعكرمة ، ونافع : أن الصيام عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين - خلاف الصواب لما ذكرنا . وأن ما يقوله أصحاب الرأي : من أنه يجزئ نصف صاع من البر خاصة لكل مسكين ، وأما غير البر كالتمر والشعير مثلا ، فلا بد من صاع كامل لكل مسكين - خلاف الصواب أيضا لمخالفته للروايات الصحيحة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي ذكرناها آنفا . وأن ما رواه الطبري وغيره ، عن سعيد بن جبير : من أن الواجب أولا النسك ، فإن لم يجد نسكا ، فهو مخير بين الصوم والصدقة - خلاف الصواب أيضا ، للأدلة التي ذكرناها ، وهي واضحة صريحة في التخيير .

ومن أصرحها في التخيير ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد ، عن داود ، عن الشعبي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " إن شئت فانسك نسيكة ، وإن شئت فصم ثلاثة أيام ، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين " ، ا هـ . فصراحة هذا في التخيير بين الثلاثة كما ترى . وما رواه مالك في موطئه ، عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرما ، فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه ، وقال : " صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان ، أو انسك بشاة ، أي ذلك فعلت أجزأ عنك " انتهى من " الموطأ " .

وقوله : " أي ذلك فعلت أجزأ عنك " صريح في التخيير كما ترى ، مع أن الآية الكريمة ، والروايات الثابتة في الصحيحين نصوص صريحة في ذلك لصراحة لفظة ، أو في التخيير ، والعلم عند الله تعالى .

وهذا الذي بينا حكمه الآن : هو حلق جميع شعر الرأس ، أما حلق بعض شعر الرأس ، أو شعر باقي الجسد غير الرأس ، فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله .

[ ص: 41 ] واعلم أن ما جاء في بعض الروايات أن النسك المذكور في الآية : بقرة ، يجاب عنه من وجهين ، وسنذكر هنا إن شاء الله بعض الروايات الواردة بذلك ، والجواب عنها .

قال أبو داود في سننه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن نافع : أن رجلا من الأنصار أخبره عن كعب بن عجرة ، وكان قد أصابه في رأسه أذى ، فحلق فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهدي هديا بقرة . انتهى منه .

وقال ابن حجر في " الفتح " بعد أن أشار لحديث أبي داود : هذا وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بخت ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : حلق كعب بن عجرة رأسه فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفتدي فافتدى ببقرة .

ولعبد بن حميد من طريق أبي معشر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : افتدى كعب من أذى كان في رأسه ، فحلقه - ببقرة قلدها وأشعرها .

ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى ، عن نافع عن سليمان بن يسار ، قيل لابن كعب بن عجرة : ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه ؟ قال : ذبح بقرة . انتهى من " الفتح " . ثم قال : فهذه الطرق كلها تدور على نافع .

وقد اختلف عليه في الواسطة التي بينه وبين كعب ، وقد عارضها ما هو أصح منها ، من أن الذي أمر به كعب وفعله إنما هو شاة .

وروى سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد من طريق المقبري ، عن أبي هريرة : أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه ، وهذا أصوب من الذي قبله ، واعتمد ابن بطال على رواية نافع ، عن سليمان بن يسار فقال : أخذ كعب بأرفع الكفارات ، ولم يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمره به من ذبح الشاة ، بل وافقه ، وزاد . ففيه : أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها ، كما فعل كعب .

قلت : هو فرع ثبوت الحديث ولم يثبت لما قدمته . والله أعلم . انتهى كلام ابن حجر .

وقد علمت منه الروايات المقضية : أن النسك في آية الفدية المذكورة بقرة ، وأن الجواب عنها من وجهين :

الأول : عدم ثبوت الروايات الواردة بالبقرة ، ومعارضتها بما هو صحيح ثابت من أن النسك المذكور في الآية شاة ، كما قدمناه .

والجواب الثاني : أنا لو فرضنا أن تلك الروايات ثابتة ، فهي لا تعارض الروايات [ ص: 42 ] الصحيحة الدالة ، على أن النسك المذكور : شاة ، وذلك بأن اللازم هو الشاة ، والتطوع بالبقرة تطوع بأكثر من اللازم . ولا مانع من التطوع بأكثر مما يلزم ، والعلم عند الله تعالى .

وهذا الذي ذكرنا حكمه : هو حلق الرأس لعذر كمرض ، أو أذى في الرأس ككثرة القمل فيه ، كما هو موضوع آية الفدية ، والأحاديث التي ذكرنا .

أما إن حلق رأسه قبل وقت الحلق لغير عذر من مرض ، أو أذى من رأسه ، فقد اختلف أهل العلم فيما يلزمه ، فذهب مالك والشافعي وهو ظاهر مذهب أحمد : إلى أن الفدية في العمد بلا عذر ، حكمها حكم الفدية لعذر المرض ، أو الأذى في الرأس ، ولا فرق بين المعذور وغيره ، إلا في الإثم ، فإن المعذور تلزمه الفدية ، ولا إثم عليه ، ومن لا عذر له تلزمه الفدية المذكورة مع الإثم ، وهو مروي عن الثوري .

وعن الحنابلة وجه : أنه لا فدية على من حلق ناسيا إحرامه ، وهو قول إسحاق ، وابن المنذر ، واحتجوا بالأدلة الدالة على العذر بالنسيان .

وذهب أبو حنيفة : إلى الفرق بين من حلق لعذر ومن حلق لغير عذر ، فإن حلقه لعذر ، فعليه الفدية المذكورة في الآية على سبيل التخيير ، وفاقا للجمهور ، وإن كان حلقه لغير عذر تعين عليه الدم دون الصيام والصدقة ، ولا أعلم لأقوالهم رحمهم الله في هذه المسألة نصا واضحا يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع .

أما الذين قالوا : إن فدية غير المعذور كفدية المعذور ، فاحتجوا ، بأن الحلق إتلاف ، فاستوى عمده وخطؤه كقتل الصيد . قالوا : ولأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور ، فكان ذلك تنبيها على وجوبها على غير المعذور ، ا هـ . ولا يخفى أن هذا النوع من الاستدلال وأمثاله ليس فيه مقنع .

وأما الذين فرقوا بين المعذور وغيره ، وهم الحنفية فاستدلوا بظاهر قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك قالوا : فرتب الفدية المذكورة على العذر ، فدل ذلك على أن من ليس له عذر ، لا يكون له هذا الحكم المرتب على العذر خاصة .

واحتج بعض أجلاء علماء الشافعية على استدلال الحنفية بالآية المذكورة بأنه قول بدليل الخطاب : يعني مفهوم المخالفة ، والمقرر في أصول الحنفية : عدم الاحتجاج بدليل الخطاب .

[ ص: 43 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يلزم الحنفية احتجاج الشافعية المذكور عليهم ; لأنهم يقولون : نعم نحن لا نعتبر مفهوم المخالفة ، ولكن نرى أن قوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ليس فيه تعرض لحكم الحالق لغير عذر ، لا بنفي الفدية المذكورة ، ولا بإثباتها ، وقد ظهر لنا من دليل آخر خارج عن الآية : أنه يلزمه دم ، ا هـ .

ولا خلاف بين أهل العلم أن صيام الفدية له أن يصومه حيث شاء ، والأظهر عندي في النسك ، والصدقة أيضا أن له أن يفعلهما حيث شاء ; لأن فدية الأذى أشبه بالكفارة منها بالهدي ، ولأن الله لم يذكر للفدية محلا معينا ، ولم يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماها نسكا ولم يسمها هديا ، والظاهر أنه لا مانع من أن ينوي بالنسك المذكور الهدي ، فيجري على حكم الهدي ، فلا يصح في غير الحرم ، إلا أنه لا يجوز له الأكل منه ; لأنه في حكم الكفارة ، كما قاله علماء المالكية . وعند الحنفية ، ومن وافقهم يختص النسك المذكور بالحرم . والعلم عند الله تعالى .

أما إذا كان الذي حلقه بعض شعر رأسه لا جميعه ، أو كان شعر جسده أو بعضه ، لا شعر الرأس ، فليس في ذلك نص صريح من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ; لأن الله جل وعلا إنما ذكر في آية الفدية : حلق الرأس ، وظاهرها حلق جميعه لا بعضه ، والعلماء مختلفون في ذلك ولم يظهر لنا في مستندات أقوالهم ما فيه مقنع يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى .

فذهب مالك - رحمه الله - وأصحابه إلى أن ضابط ما تلزم به فدية الأذى من الحلق هو حصول أحد أمرين :

أحدهما : أن يحصل له بذلك ترفه .

والثاني : أن يزيل عنه به أذى . أما حلق القليل من شعر رأسه ، أو غيره مما لا يحصل به ترفه ، ولا إماطة أذى ، فيلزم فيه التصدق بحفنة : وهي يد واحدة ، وكذلك عندهم الظفر الواحد لا لإماطة أذى ، وقتل القملة أو القملات .

وقال ابن القاسم في المدونة : ما سمعت بحد فيما دون إماطة الأذى أكثر من حفنة من شيء من الأشياء ، وقد قال في قملة أو قملات : حفنة من طعام ، والحفنة بيد واحدة . انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره ، وفي الظفر الواحد ، لا لإماطة الأذى حفنة ، ا هـ .

[ ص: 44 ] وذهب الشافعي وأصحابه : إلى أن حلق ثلاث شعرات فصاعدا تلزم فيه فدية الأذى كاملة ، واحتجوا بأن الثلاث : يقع عليها اسم الجمع المطلق ، فكان حلقها كحلق الجميع ، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ، وقال القاضي : إنها المذهب ، وبذلك قال الحسن ، وعطاء ، وابن عيينة ، وأبو ثور ، كما نقله عنهم صاحب المغني . أما حلق الشعرة الواحدة ، أو الشعرتين فللشافعية فيه أربعة أقوال :

الأول : وهو أصحها عند محققيهم ، وهو نص الشافعي في أكثر كتبه : أنه يجب في الشعرة الواحدة مد وفي الشعرتين مدان .

الثاني : يجب في شعرة واحدة درهم ، وفي شعرتين درهمان .

الثالث : يجب في شعرة ثلث دم وفي شعرتين ثلثاه .

الرابع : أن في الشعرة الواحدة دما كاملا . ومذهب الإمام أحمد : وجوب الفدية كاملة في أربع شعرات فصاعدا ، وهذه الرواية اقتصر عليها الخرقي ، وقد قدمنا قريبا الرواية عنه بوجوب الفدية بثلاث شعرات فصاعدا . أما ما هو أقل من القدر الذي يوجب الفدية ، وهو ثلاث شعرات ، أو شعرتان بحسب الروايتين المذكورتين ففي الشعرة الواحدة : مد من طعام ، وفي الشعرتين : مدان ، وعنه أيضا في كل شعرة : قبضة من طعام ، وروي نحوه عن عطاء .

وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن حلق ربع رأسه ، أو ربع لحيته ، أو حلق عضوا كاملا كرقبته ، أو عانته أو أحد إبطيه ، ونحو ذلك : لزمته فدية الأذى ، إن كان ذلك لعذر ، وإن كان لغير عذر : لزمه دم ، ويلزم عنده في حلق أقل مما ذكر كحلق أقل من ربع الرأس ، أو ربع اللحية ، أو أقل من عضو كامل صدقة ، والصدقة عندهم : نصف صاع من بر ، أو صاع من غيره .

وروي عن أبي حنيفة وأصحابه : أن في كل شعرة قبضة من طعام كما ذكره عنهم صاحب المغني .

وأما حلق شعر البدن غير الرأس ، فقد علمت مما ذكرنا آنفا أن مذهب أبي حنيفة فيه : أنه إن حلق عضوا كاملا ففيه الفدية أو الدم ، وإن حلق أقل من عضو ، ففيه الصدقة ، وأن حكم اللحية عنده كحكم الرأس ، وحلق الربع فيهما كحلق الجميع .

ومذهب الشافعي أن حلق شعر الجسد غير الرأس كحكم حلق الرأس ، فتلزم الفدية [ ص: 45 ] في ثلاث شعرات فصاعدا ، سواء كانت من شعر الرأس أو غيره من الجسد ، وفي الشعرة ، أو الشعرتين من الجسد عندهم الأقوال الأربعة المتقدمة ، وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه معا ، لزمه عند الشافعي ، وأصحابه : فدية واحدة ، خلافا لأبي القاسم الأنماطي القائل : يلزمه فديتان ، محتجا بأن شعر الرأس مخالف لشعر البدن ; لأن النسك يتعلق بشعر الرأس ، فيلزم حلقه ، أو تقصيره بخلاف شعر البدن .

واحتج الشافعية بأنهما وإن اختلف حكمهما في النسك فهما جنس واحد : فأجزأت لهما فدية واحدة .

ومذهب الإمام أحمد في هذه المسألة كمذهب الشافعي فشعر الرأس وشعر البدن حكمهما عنده سواء . وإن حلق شعر رأسه وبدنه : فعليه فدية واحدة ، وعنه رواية أخرى : أنه يلزمه دمان ، إذا حلق من كل من الرأس ، والجسد ما تجب به الفدية منفردا عن الآخر كقول الأنماطي المتقدم .

قال في " المغني " : وهو الذي ذكره القاضي ، وابن عقيل ; لأن الرأس يخالف البدن ، بحصول التحلل به دون البدن ، ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن ، فلم تتعدد الفدية فيه باختلاف مواضعه كسائر البدن ، وكاللباس ، ودعوى الاختلاف تبطل باللباس فإنه يجب كشف الرأس ، دون غيره ، والجزاء في اللبس فيهما واحد .

وقال ابن قدامة في " المغني " أيضا : وإن حلق من رأسه شعرتين ، ومن بدنه شعرتين فعليه دم واحد ، هذا ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي الخطاب ، ومذهب أكثر الفقهاء . ومذهب مالك في هذه المسألة : أن شعر البدن كشعر الرأس ، فإن حلق من شعر بدنه ما فيه ترفه ، أو إماطة أذى : لزمته الفدية ، وإلا فالتصدق بحفنة بيد واحدة .

وسئل مالك : عن المحرم يتوضأ فيمر يديه على وجهه ، أو يخلل لحيته في الوضوء ، أو يدخل يده في أنفه لمخاط ينزعه ، أو يمسح رأسه ، أو يركب دابته ، فيحلق ساقه الإكاف أو السرج ؟ قال مالك : ليس عليه في ذلك كله شيء ، وهذا خفيف ، ولا بد للناس منه . انتهى بواسطة نقل الحطاب في كلامه على قول خليل : وتساقط شعر لوضوء أو ركوب ، ا هـ .

وإذا علمت أقوال الأئمة رحمهم الله في شعر الجسد . فاعلم أني لا أعلم لشيء منها مستندا من نص كتاب ، أو سنة .

[ ص: 46 ] والأظهر أنهم قاسوا شعر الجسد على شعر الرأس ، بجامع أن الكل قد يحصل بحلقه الترفه ، والتنظف ، والظاهر أن اجتهادهم في حلق بعض شعر الرأس يشبه بعض أنواع تحقيق المناط ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية