وقالت جماعة أخرى من أهل العلم : لا يجوز
تزويج الزاني لعفيفة ولا عكسه ، وهو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، وقد روي عن
الحسن وقتادة ، واستدل أهل هذا القول بآيات وأحاديث .
فمن الآيات التي استدلوا بها هذه الآية التي نحن بصددها ، وهي قوله تعالى :
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [ 24 \ 3 ] قالوا : المراد بالنكاح في هذه الآية : التزويج ، وقد نص الله على
[ ص: 422 ] تحريمه في قوله :
وحرم ذلك على المؤمنين قالوا : والإشارة بقوله : ذلك راجعة إلى تزويج الزاني بغير الزانية ، أو المشركة وهو نص قرآني في تحريم نكاح الزاني العفيفة ، كعكسه .
ومن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى :
والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان [ 5 \ 5 ] قالوا : فقوله
محصنين غير مسافحين أي : أعفاء غير زناة ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية أنه لا يجوز نكاح المسافح الذي هو الزاني لمحصنة مؤمنة ، ولا محصنة عفيفة من أهل الكتاب ، وقوله تعالى :
فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ 4 \ 25 ] ، فقوله :
محصنات غير مسافحات أي : عفائف غير زانيات ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية ، أنهن لو كن مسافحات غير محصنات ، لما جاز تزوجهن .
ومن أدلة أهل هذا القول أن جميع الأحاديث الواردة في سبب نزول آية
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية ، كلها في عقد النكاح وليس واحد منها في الوطء ، والمقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وأنه قد جاء في السنة ما يؤيد صحة ما قالوا في الآية ، من أن النكاح فيها التزويج ، وأن الزاني لا يتزوج إلا زانية مثله ، فقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009195الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله " ، وقال
ابن حجر في بلوغ المرام في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة هذا : رواه
أحمد ،
وأبو داود ورجاله ثقات .
وأما الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية :
فمنها ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص nindex.php?page=hadith&LINKID=1009196أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت تسافح ، وتشترط له أن تنفق عليه ، قال : فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذكر له أمرها ، فقرأ عليه نبي الله : والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك رواه
أحمد .
وقال
الشوكاني في " نيل الأوطار " في شرحه لهذا الحديث : وقد عزاه صاحب المنتقى
لأحمد وحده ، وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو أخرجه أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في الكبير والأوسط ، قال في مجمع الزوائد : ورجال
أحمد ثقات .
[ ص: 423 ] ومنها حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009197أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة ، وكانت بمكة بغي يقال لها عناق ، وكانت صديقته ، قال : فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أنكح عناق ؟ قال : فسكت عني ، فنزلت : والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي ، وقال " : لا تنكحها " ، رواه
أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي .
قال
الشوكاني في " نيل الأوطار " في كلامه على حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب هذا الذي ذكره صاحب المنتقى ، وعزاه
لأبي داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي : وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب حسنه
الترمذي وساق
ابن كثير في تفسير هذه الآية الأحاديث التي ذكرنا بأسانيدها ، وقال في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب هذا : قال
الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقد رواه
أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي في كتاب النكاح من سننهما من حديث
عبيد الله بن الأخنس به .
قالوا : فهذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن النكاح في قوله :
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة أنه التزويج لا الوطء ، وصورة النزول قطعية الدخول ; كما تقرر في الأصول ، قالوا : وعلى أن المراد به التزويج ، فتحريم نكاح الزانية والزاني منصوص في قوله تعالى :
وحرم ذلك على المؤمنين .
وقال
ابن القيم في " زاد المعاد " ما نصه : وأما
نكاح الزانية فقد صرح الله - سبحانه وتعالى - بتحريمه في سورة " النور " وأخبر أن من نكحها فهو إما زان أو مشرك ، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ، ويعتقد وجوبه عليه أو لا ، فإن لم يلتزمه ، ولم يعتقده فهو مشرك ، وإن التزمه واعتقد وجوبه ، وخالفه فهو زان ، ثم صرح بتحريمه ، فقال :
وحرم ذلك على المؤمنين ولا يخفى أن دعوى النسخ للآية بقوله :
وأنكحوا الأيامى منكم [ 24 \ 32 ] من أضعف ما يقال ، وأضعف منه حمل النكاح على الزنى .
إذ يصير معنى الآية : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة ، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك ، وكلام الله ينبغي أن يصان عن مثل هذا ، وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها ، كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان ، وهو العفة ، فقال :
[ ص: 424 ] فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ 4 \ 25 ] ، فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها ، وليس هذا من دلالة المفهوم ، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم ، فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع ، وما عداه فعلى أصل التحريم ، انتهى محل الغرض من كلام
ابن القيم .
وهذه الأدلة التي ذكرنا هي
حجج القائلين بمنع تزويج الزاني العفيفة كعكسه ، وإذا عرفت أقوال أهل العلم ، وأدلتهم في مسألة نكاح الزانية والزاني ، فهذه مناقشة أدلتهم .
أما قول
ابن القيم : إن حمل الزنا في الآية على الوطء ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله ، فيرده أن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وهو في المعرفة باللغة العربية وبمعاني القرآن صح عنه حمل الزنى في الآية على الوطء ، ولو كان ذلك ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله لصانه عنه
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ولم يقل به ولم يخف عليه أنه ينبغي أن يصان عن مثله .
وقال
ابن العربي في تفسير
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس للزنى في الآية بالوطء : هو معنى صحيح ، انتهى منه بواسطة نقل
القرطبي عنه .
وقول
ابن القيم في كلامه هذا الذي ذكرنا عنه : فإن لم يلتزمه ، ولم يعتقده فهو مشرك يقال فيه : نعم هو مشرك ، ولكن
المشرك لا يجوز له نكاح الزانية المسلمة ، وظاهر كلامك جواز ذلك ، وهو ليس بجائز فيبقى إشكال ذكر المشرك والمشركة واردا على القول بأن النكاح في الآية التزويج ، كما ترى .
وقول
ابن القيم في كلامه هذا : وليس هذا من باب دلالة المفهوم ، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع وما عداه فعلى أصل التحريم يقال فيه : إن تزويج الزانية وردت نصوص عامة تقتضي جوازه ; كقوله تعالى :
وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 25 ] وهو شامل بعمومه للزانية والعفيفة والزاني والعفيف ، وقوله :
وأنكحوا الأيامى منكم [ 24 \ 32 ] فهو أيضا شامل بعمومه لجميع من ذكر ، ولذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب : إن آية
وأنكحوا الأيامى الآية ، ناسخة لقوله تعالى :
الزاني لا ينكح إلا زانية الآية ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : القول في ذلك كما قال
سعيد من نسخها بها .
وبما ذكرنا يتضح أن دلالة قوله :
محصنات غير مسافحات على المقصود من
[ ص: 425 ] البحث من باب دلالة المفهوم كما أوضحناه قريبا ; لأن العمومات المذكورة لا يصح تخصيص عمومها إلا بدليل منطوقا كان أو مفهوما ، كما تقدم إيضاحه .
وأما قول
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي بأن آية :
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة منسوخة بقوله :
وأنكحوا الأيامى منكم فهو مستبعد ; لأن المقرر في أصول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ومالك
وأحمد هو أنه لا يصح
نسخ الخاص بالعام ، وأن الخاص يقضي على العام مطلقا ، سواء تقدم نزوله عنه أو تأخر ، ومعلوم أن آية
وأنكحوا الأيامى منكم أعم مطلقا من آية :
الزاني لا ينكح إلا زانية فالقول بنسخها لها ممنوع على المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين ، وإنما يجوز ذلك على المقرر في أصول
أبي حنيفة - رحمه الله - كما قدمنا إيضاحه في سورة " الأنعام " ، وقد يجاب عن قول
سعيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي بالنسخ بأنهما فهماه من قرينة في الآية ، وهي أنه لم يقيد الأيامى الأحرار بالصلاح ، وإنما قيد بالصلاح في أيامى العبيد والإماء ، ولذا قال بعد الآية :
والصالحين من عبادكم وإمائكم [ 24 \ 32 ] .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه الآية الكريمة من أصعب الآيات تحقيقا; لأن حمل النكاح فيها على التزويج ، لا يلائم ذكر المشركة والمشرك ، وحمل النكاح فيها على الوطء لا يلائم الأحاديث الواردة المتعلقة بالآية ، فإنها تعين أن المراد بالنكاح في الآية : التزويج ، ولا أعلم مخرجا واضحا من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسف ، وهو أن أصح الأقوال عند الأصوليين كما حرره
أبو العباس ابن تيمية في رسالته في علوم القرآن ، وعزاه لأجلاء علماء المذاهب الأربعة هو جواز
حمل المشترك على معنييه ، أو معانيه ، فيجوز أن تقول : عدا اللصوص البارحة على عين زيد ، وتعني بذلك أنهم عوروا عينه الباصرة وغوروا عينه الجارية ، وسرقوا عينه التي هي ذهبه أو فضته .
وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن النكاح مشترك بين الوطء والتزويج ، خلافا لمن زعم أنه حقيقة في أحدهما ، مجاز في الآخر كما أشرنا له سابقا ، وإذا جاز حمل المشترك على معنييه ، فيحمل النكاح في الآية على الوطء ، وعلى التزويج معا ، ويكون ذكر المشركة والمشرك على تفسير النكاح بالوطء دون العقد ، وهذا هو نوع التعسف الذي أشرنا له ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 426 ] وأكثر أهل العلم على إباحة تزويج الزانية ، والمانعون لذلك أقل ، وقد عرفت أدلة الجميع .