المسألة السابعة عشرة : اعلم أن كفارة الظهار هي التي أوضحها الله تعالى بقوله :
فتحرير رقبة إلى قوله :
فإطعام ستين مسكينا [ 58 \ 3 - 4 ] .
فروع تتعلق بهذه المسألة .
الفرع الأول : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في
الرقبة في كفارة الظهار ، هل يشترط فيها الإيمان أو لا يشترط فيها ؟ فقال بعضهم : لا يشترط فيها الإيمان ، فلو أعتق المظاهر عبدا ذميا مثلا أجزأه ، وممن قال بهذا القول
أبو حنيفة وأصحابه ،
وعطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ،
والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ،
وابن المنذر ، وهو إحدى الروايتين عن
أحمد ، قاله في " المغني " .
وحجة أهل هذا القول أن الله تعالى قال في هذه الآية الكريمة :
فتحرير رقبة ،
[ ص: 213 ] ولم يقيدها بالإيمان ، فوجب أن يجزئ ما تناوله إطلاق الآية ، قالوا : وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الله في كتابه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه . وممن قال باشتراط الإيمان في رقبة كفارة الظهار :
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
والحسن ،
وإسحاق ،
وأبو عبيدة ، وهو ظاهر مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، قاله في " المغني " . واحتج لأهل هذا القول بما تقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد .
وقد بينا مسألة
حمل المطلق على المقيد في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى في كفارة القتل الخطأ :
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة الآية [ 4 \ 92 ] ، بقولنا فيه وحاصل تحرير المقام في مسألة تعارض المطلق والمقيد : أن لها أربع حالات : الأولى : أن يتحد حكمهما وسببهما معا كتحرير الدم ، فإن الله قيده في سورة " الأنعام " ، بكونه مسفوحا في قوله تعالى :
إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا [ 6 \ 145 ] ، وأطلقه عن القيد بكونه مسفوحا في سورة " النحل " و " البقرة " و " المائدة " . قال في " النحل " :
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به [ 2 \ 115 ] ، وقال في " البقرة " :
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله [ 2 \ 173 ] ، وقال في " المائدة " :
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية [ 6 \ 3 ] . وجمهور العلماء يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا ، ولذلك كانوا لا يرون بالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم بأسا ; لأنه دم غير مسفوح ، قالوا : وحمله عليه أسلوب من أساليب اللغة العربية ، لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت ، ومنه قول
قيس بن الخطيم الأنصاري :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
فحذف راضون لدلالة راض عليه . وقول
ضابئ بن الحارث البرجمي :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
والأصل : فإني غريب وقيار أيضا غريب ، فحذف إحدى الكلمتين لدلالة الأخرى عليها . وقول
عمرو بن أحمر الباهلي :
[ ص: 214 ] رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوى رماني
يعني : كنت بريئا منه ، وكان والدي بريئا منه أيضا . وقول
nindex.php?page=showalam&ids=8572النابغة الجعدي :
وقد زعمت بنو سعد بأني وما كذبوا كبير السن فاني
يعني : زعمت
بنو سعد أني فان وما كذبوا . . إلخ .
وقالت جماعة من أهل الأصول : إن حمل المطلق على المقيد بالقياس ، لا بدلالة اللفظ وهو أظهرها . وقيل : بالعقل ، وهو أضعفها وأبعدها .
الحالة الثانية : هي أن يتحد الحكم ، ويختلف السبب ، كالمسألة التي نحن بصددها ، فإن الحكم في آية المقيد وآية المطلق واحد ، وهو عتق رقبة في كفارة ، ولكن السبب فيهما مختلف ; لأن سبب المقيد قتل خطأ ، وسبب المطلق ظهار ، ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية ، والحنابلة ، وكثير من المالكية ، ولذا شرطوا الإيمان في كفارة الظهار حملا لهذا المطلق على المقيد ، خلافا
لأبي حنيفة ومن وافقه ، قالوا : ويعتضد حمل هذا المطلق على المقيد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة
معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009346اعتقها فإنها مؤمنة " ، ولم يستفصله عنها ، هل هي في كفارة أو لا ؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال . قال في " مراقي السعود " :
ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال
الحالة الثالثة : عكس هذه ، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم ، فقيل : يحمل فيها المطلق على المقيد . وقيل : لا ، وهو قول أكثر العلماء ، ومثلوا له بصوم الظهار ، وإطعامه ، فسببهما واحد وهو الظهار ، وحكمهما مختلف ; لأن أحدهما تكفير بصوم ، والآخر تكفير بإطعام ، وأحدهما مقيد بالتتابع ، وهو الصوم . والثاني مطلق عن قيد التتابع ، وهو الإطعام ، فلا يحمل هذا المطلق على هذا المقيد . والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة ، مثلوا لذلك بإطعام الظهار ، فإنه لم يقيد بكونه من قبل أن يتماسا ، مع أن عتقه وصومه قد قيدا بقوله :
من قبل أن يتماسا ، فيحمل هذا المطلق على المقيد ، فيجب كون الإطعام قبل المسيس ، ومثل له
اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله :
من أوسط ما تطعمون أهليكم [ 5 \ 89 ] ، مع إطلاق الكسوة عن القيد بذلك ، في قوله :
أو كسوتهم [ 5 \ 89 ] فيحمل هذا المطلق على المقيد ، فيشترط في
[ ص: 215 ] الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم .
الحالة الرابعة : أن يختلفا في الحكم والسبب معا ، ولا حمل في هذه إجماعا وهو واضح ، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا . أما إذا ورد مقيدان بقيدين مختلفين ، فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما ، ولكنه ينظر فيهما ، فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء ، فيقيد بقيده . وإن لم يكن أحدهما أقرب له ، فلا يقيد بقيد واحد منهما ، ويبقى على إطلاقه إذ لا ترجيح بلا مرجح ، ومثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم كفارة اليمين ، فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق ، مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع في قوله تعالى :
فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين [ 58 \ 4 ] ، وصوم التمتع مقيد بالتفريق في قوله تعالى :
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم [ 2 \ 196 ] ، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع ; لأن كلا من صوم الظهار واليمين صوم كفارة بخلاف صوم التمتع ، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك ، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع .
وقراءة
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : [ فصيام ثلاثة أيام متتابعات ] لم تثبت ; لإجماع
الصحابة على عدم كتب متتابعات في المصاحف العثمانية ، ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر : صوم قضاء رمضان ، فإن الله تعالى قال فيه :
فعدة من أيام أخر [ 2 \ 185 ] ، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق ، مع أنه تعالى قيد صوم الظهار بالتتابع ، وصوم التمتع بالتفريق ، وليس أحدهما أقرب إلى صوم قضاء رمضان من الآخر ، فلا يقيد بقيد واحد منهما بل يبقى على الاختيار ، إن شاء تابعه ، وإن شاء فرقه ، والعلم عند الله تعالى . انتهى من " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، مع زيادة يسيرة للإيضاح .