[ ص: 108 ] قوله تعالى :
وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين .
قول
موسى عليه السلام : لم تؤذونني ؟ لم يبين نوع هذا الإيذاء وقد جاء مثل هذا الإجمال في قوله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا [ 33 \ 69 ] .
وأحال عليه
ابن كثير في تفسيره ، وساق حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007186إن موسى - عليه السلام - كان حييا ستيرا لا يرى من جلده شيئا استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده ، إما برص وإما أدرة وإما آفة ، وأن الله - عز وجل - أراد أن يبرئه مما قالوا فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على حجر ، ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ؛ ليأخذها ، وأن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله - عز وجل - وبرأه مما يقولون " . . . . إلى آخر القصة .
ونقله غيره من المفسرين عندها ، وعلى هذا يكون إيذاؤهم إياه إيذاء شخصيا بادعاء العيب فيه خلقة ، وهذا وإن صح في آية الأحزاب لقوله تعالى :
فبرأه الله مما قالوا [ 33 \ 69 ] ، فإنه لا يصح في آية " الصف " هذه لأن قوله لهم :
وقد تعلمون أني رسول الله إليكم [ 61 \ 5 ] مما يثير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي ، ويرشح له قوله تعالى بعده مباشرة :
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .
أي : فلما زاغوا بما آذوا به
موسى ، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال ، وقد آذوه كثيرا في ذلك كما بينه تعالى في قوله عنهم :
وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [ 2 \ 55 ] .
وكذلك قوله تعالى :
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين [ 2 \ 93 ] .
فها هم يؤخذ الميثاق عليهم ويرفع فوقهم الطور ، ويقال لهم :
خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا [ ص: 109 ] فكله يساوي قوله :
وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ، لأن قد هنا للتحقيق ، ومع ذلك يؤذونه بقولهم :
سمعنا وعصينا ، ويؤذونه بأن أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم ، ولذا قال لهم :
بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين .
وقد جمع إيذاء الكفار لرسول الله مع إيذاء قوم
موسى لموسى في قوله تعالى :
يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم الآية [ 4 \ 153 ] .
ومن مجموع هذا يتبين أن الإيذاء المنصوص عليه هنا هو في خصوص الرسالة ، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه ، وفي ما جاء به
فبرأه الله مما قالوا في آية " الأحزاب " وعاقبهم على إيذائه فيما أرسل به إليهم بزيغ قلوبهم ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله :
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ، تقدم كلام الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - على هذا المعنى في سورة " الروم " ، عند الكلام على قوله تعالى :
ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله الآية [ 30 \ 10 ] .
وقال : إن الكفر والتكذيب قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه ، وساق هذه الآية :
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم
وقوله :
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] .
وأحال على سورة
" بني إسرائيل " على قوله :
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] .
وعلى سورة " الأعراف " على قوله :
فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين [ 7 \ 101 ] .
ومما يشهد لهذا المعنى العام بقياس العكس قوله تعالى :
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وأمثالها .
ومما يلفت النظر هنا
إسناد الزيغ للقلوب في قوله تعالى :
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم .
[ ص: 110 ] وأن الهداية أيضا للقلب كما في قوله تعالى :
ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم [ 64 \ 11 ] .
ولذا حرص المؤمنون على هذا الدعاء :
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ 3 \ 8 ] فتضمن المعنيين ، والعلم عند الله تعالى .