قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص [ 61 \ 4 ] .
اختلف علماء التفسير في المراد بالبنيان المرصوص ، فنقل بعضهم عن
الفراء : أنه المتلاحم بالرصاص لشدة قوته ، والجمهور : أنه المتلاصق المتراص المتساوي .
والواقع أن المراد بالتشبيه هنا هو وجه الشبه ، ولا يصح أن يكون هنا هو شكل البناء لا في تلاحمه بالرصاص ، وعدم انفكاكه ولا تساويه وتراصه ؛ لأن ذلك يتنافى وطبيعة الكر والفر في أرض المعركة ، ولكل وقعة نظامها حسب موقعها .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن وجه الشبه المراد هنا هو عموم القوة والوحدة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : يجوز أن يريد استواء بنائهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . ا هـ .
ويدل لهذا الآتي :
أولا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=121وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم [ 3 \ 121 ] .
فالمقاعد هنا هي المواقع للجماعات من الجيش ، وهي التعبئة حسب ظروف الموقعة ، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في وضع الرماة في غزوة
أحد حماية لظهورهم من التفاف العدو بهم
[ ص: 107 ] لطبيعة المكان ، وكما فعل في غزوة
بدر ورصهم ، وسواهم بقضيب في يده أيضا لطبيعة المكان .
وهكذا ، فلابد في كل وقعة من مراعاة موقعها ، بل وظروف السلاح والمقاتلة .
وقد ذكر صاحب الجمان في تشبيهات القرآن أجزاء الجيش وتقسيماته بصفة عامة من قلب وميمنة وميسرة وأجنحة ، ونحو ذلك فيكون وجه الشبه هو الارتباط المعنوي والشعور بالمسئولية ، والإحساس بالواجب كما فعل
الحباب بن المنذر في غزوة
بدر حين نظر إلى منزل المسلمين من الموقع فلم يرقه ، وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجابه فأبدى خطة جديدة فأخذ بها - صلى الله عليه وسلم - وغير الموقع من مكان المعركة .
وثانيا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=45ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=46وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [ 8 \ 45 - 46 ] .
فذكر تعالى
من عوامل النصر : الثبات عند اللقاء ، وذكر الله والطاعة ، والامتثال ، والحفاظ عليها بعدم التنازع والصبر عند الحملة والمجالدة ، فتكون حملة رجل واحد ، وكلها داخلة تحت معنى البنيان المرصوص في قوته وحمايته وثباته ، وقد عاب تعالى على
اليهود تشتت قلوبهم عند القتال في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى [ 59 \ 14 ] ، وامتدح المؤمنين في قتالهم بوحدتهم كأنهم بنيان مرصوص .
وقد جاءت السنة بهذا التشبيه للتعاون في قوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009516المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا " .
فهو يبين المراد من وجه الشبه في البنيان المرصوص هنا ، وقد أثر عن
أبي موسى - رضي الله عنه - قوله لأصحابه : الزموا الطاعة ؛ فإنها حصن المحارب .
وعن
أكثم بن صيفي : أقلوا الخلاف على أمرائكم ، وإن المسلمين اليوم لأحوج ما يكونون إلى الالتزام بهذا التوجيه القرآني الكريم ، إزاء قضيتهم العامة مع عدوهم المشترك ، ولا سيما ، وقد مر العالم الإسلامي بعدة تجارب في تاريخهم الطويل وكان لهم منها أوضح العبر ، ولهم في هذا المنهج القرآني أكبر موجب لاسترجاع حقوقهم والحفاظ على كيانهم ، فضلا عن أنه العمل الذي يحبه الله من عباده ، وبالله تعالى التوفيق .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [ 61 \ 4 ] .
اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي الْمُرَادِ بِالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ ، فَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنِ
الْفَرَّاءِ : أَنَّهُ الْمُتَلَاحِمُ بِالرَّصَاصِ لِشِدَّةِ قُوَّتِهِ ، وَالْجُمْهُورُ : أَنَّهُ الْمُتَلَاصِقُ الْمُتَرَاصُّ الْمُتَسَاوِي .
وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ هُنَا هُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُنَا هُوَ شَكْلُ الْبِنَاءِ لَا فِي تَلَاحُمِهِ بِالرَّصَاصِ ، وَعَدَمِ انْفِكَاكِهِ وَلَا تَسَاوِيهِ وَتَرَاصِّهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَنَافَى وَطَبِيعَةَ الْكَرِّ وَالْفَرِّ فِي أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ ، وَلِكُلِّ وَقْعَةٍ نِظَامُهَا حَسَبَ مَوْقِعِهَا .
وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ : أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ عُمُومُ الْقُوَّةِ وَالْوَحْدَةِ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ اسْتِوَاءَ بِنَائِهِمْ فِي الثَّبَاتِ حَتَّى يَكُونُوا فِي اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ . ا هـ .
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْآتِي :
أَوَّلًا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=121وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ 3 \ 121 ] .
فَالْمَقَاعِدُ هُنَا هِيَ الْمَوَاقِعُ لِلْجَمَاعَاتِ مِنَ الْجَيْشِ ، وَهِيَ التَّعْبِئَةُ حَسَبَ ظُرُوفِ الْمَوْقِعَةِ ، كَمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَضْعِ الرُّمَاةِ فِي غَزْوَةِ
أُحُدٍ حِمَايَةً لِظُهُورِهِمْ مِنَ الْتِفَافِ الْعَدُوِّ بِهِمْ
[ ص: 107 ] لِطَبِيعَةِ الْمَكَانِ ، وَكَمَا فَعَلَ فِي غَزْوَةِ
بَدْرٍ وَرَصَّهُمْ ، وَسَوَّاهُمْ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ أَيْضًا لِطَبِيعَةِ الْمَكَانِ .
وَهَكَذَا ، فَلَابُدَّ فِي كُلِّ وَقْعَةٍ مِنْ مُرَاعَاةِ مَوْقِعِهَا ، بَلْ وَظُرُوفِ السِّلَاحِ وَالْمُقَاتِلَةِ .
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْجُمَّانِ فِي تَشْبِيهَاتِ الْقُرْآنِ أَجْزَاءَ الْجَيْشِ وَتَقْسِيمَاتِهِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مِنْ قَلْبٍ وَمَيْمَنَةٍ وَمَيْسَرَةٍ وَأَجْنِحَةٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَكُونُ وَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الِارْتِبَاطَ الْمَعْنَوِيَّ وَالشُّعُورَ بِالْمَسْئُولِيَّةِ ، وَالْإِحْسَاسَ بِالْوَاجِبِ كَمَا فَعَلَ
الْحَبَّابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فِي غَزْوَةِ
بَدْرٍ حِينَ نَظَرَ إِلَى مَنْزِلِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَوْقِعِ فَلَمْ يَرُقْهُ ، وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَهُ فَأَبْدَى خُطَّةً جَدِيدَةً فَأَخَذَ بِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيَّرَ الْمَوْقِعَ مِنْ مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ .
وَثَانِيًا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=45يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=46وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [ 8 \ 45 - 46 ] .
فَذَكَرَ تَعَالَى
مِنْ عَوَامِلِ النَّصْرِ : الثَّبَاتَ عِنْدَ اللِّقَاءِ ، وَذِكْرَ اللَّهِ وَالطَّاعَةَ ، وَالِامْتِثَالَ ، وَالْحِفَاظَ عَلَيْهَا بِعَدَمِ التَّنَازُعِ وَالصَّبْرَ عِنْدَ الْحَمْلَةِ وَالْمُجَالَدَةَ ، فَتَكُونُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ مَعْنَى الْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ فِي قُوَّتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَثَبَاتِهِ ، وَقَدْ عَابَ تَعَالَى عَلَى
الْيَهُودِ تَشَتُّتَ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ الْقِتَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [ 59 \ 14 ] ، وَامْتَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِهِمْ بِوَحْدَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ .
وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَةُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ لِلتَّعَاوُنِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009516الْمُسْلِمُ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا " .
فَهُوَ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ وَجْهِ الشَّبَهِ فِي الْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ هُنَا ، وَقَدْ أُثِرَ عَنْ
أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُهُ لِأَصْحَابِهِ : الْزَمُوا الطَّاعَةَ ؛ فَإِنَّهَا حِصْنُ الْمُحَارِبِ .
وَعَنْ
أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ : أَقِلُّوا الْخِلَافَ عَلَى أُمَرَائِكُمْ ، وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ لَأَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِلَى الِالْتِزَامِ بِهَذَا التَّوْجِيهِ الْقُرْآنِيِّ الْكَرِيمِ ، إِزَاءَ قَضِيَّتِهِمِ الْعَامَّةِ مَعَ عَدُوِّهِمِ الْمُشْتَرِكِ ، وَلَا سِيَّمَا ، وَقَدْ مَرَّ الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ بِعِدَّةِ تَجَارِبَ فِي تَارِيخِهِمُ الطَّوِيلِ وَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا أَوْضَحُ الْعِبَرِ ، وَلَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْهَجِ الْقُرْآنِيِّ أَكْبَرُ مُوجِبٍ لِاسْتِرْجَاعِ حُقُوقِهِمْ وَالْحِفَاظِ عَلَى كِيَانِهِمْ ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .