ثم فصل هذا الشتات في التفصيل الآتي :
فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى
وما أبعد ما بين العطاء ، والبخل ، والتصديق ، والتكذيب ، واليسرى ، والعسرى ، وقد أطلق : " أعطى " ; ليعم كل عطاء من ماله وجاهه وجهده حتى الكلمة الطيبة ، بل حتى طلاقة الوجه ، كما في الحديث : " ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق " . والحسنى : قيل المجازاة على الأعمال . وقيل : للخلف على الإنفاق . وقيل : لا إله إلا الله . وقيل : الجنة .
والذي يشهد له القرآن هو الأخير ; لقوله تعالى :
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، فقالوا : الحسنى هي الجنة ، والزيادة النظر إلى وجهه الكريم ، وهذا
[ ص: 548 ] المعنى يشمل كل المعاني ; لأنها أحسن خلف لكل ما ينفق العبد ، وخير وأحسن مجازاة على أي عمل مهما كان ، ولا يتوصل إليها إلا بلا إله إلا الله .
وقوله :
فسنيسره لليسرى ، وقوله :
فسنيسره للعسرى بعد ذكر " أعطى واتقى " في الأولى ، و " بخل واستغنى " في الثانية .
قيل : هو دلالة على أن فعل الطاعة ييسر إلى طاعة أخرى ، وفعل المعصية يدفع إلى معصية أخرى .
قال ابن كثير : مثل قوله تعالى :
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] .
ثم قال : والآيات في هذا المعنى كثيرة ، دالة على أن
الله - عز وجل - يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ، وكل ذلك بقدر مقدر .
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة . وذكر عن
أبي بكر عند
أحمد ، وعن
علي عند
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وعبد الله بن عمر عند
أحمد ، وعدد كثير بروايات متعددة ، أشملها وأصحها حديث
علي عند
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، قال
علي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009808 " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بقيع الغرقد في جنازة ، فقال : " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار " ، فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل ؟ فقال : اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له " ، ثم قرأ : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى إلى قوله للعسرى " فهي من الآيات التي لها تعلق ببحث القدر .
وتقدم مرارا بحث هذه المسألة . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه .
قال
أبو حيان : جاء قوله :
فسنيسره للعسرى على سبيل المقابلة ; لأن العسرى لا تيسير فيها . اهـ .
وهذا من حيث الأسلوب ممكن ، ولكن لا يبعد أن يكون معنى التيسير موجودا بالفعل ، إذ المشاهد أن من خذلهم الله - عياذا بالله - يوجد منهم إقبال وقبول وارتياح ، لما يكون أثقل وأشق ما يكون على غيرهم ، ويرون ما هم فيه سهلا ميسرا لا غضاضة
[ ص: 549 ] عليهم فيه ، بل وقد يستمرئون الحرام ويستطعمونه .
كما ذكر لي شخص : أن لصا قد كف عن السرقة ; حياء من الناس ، وبعد أن كثر ماله وكبر سنه أعطى رجلا دراهم ; ليسرق له من زرع جاره ، فذهب الرجل ودار من جهة أخرى وأتاه بثمرة من زرعه هو ، أي : زرع اللص نفسه ، فلما أكلها تفلها ، وقال : ليس فيه طعمة المسروق ، فمن أين أتيت به ؟ قال : أتيت به من زرعك ، ألا تستحي من نفسك ، تسرق وعندك ما يغنيك . فخجل وكف .
وقد جاء عن
عمر نقيض ذلك تماما ، وهو أنه لما طلب من غلامه أن يسقيه مما في شكوته من لبنه ، فلما طعمه استنكر طعمه ، فقال للغلام : من أين هذا ؟ فقال : مررت على إبل الصدقة فحلبوا لي منها ، وها هو ذا ، فوضع
عمر إصبعه في فيه ، واستقاء ما شرب .
إنها حساسية الحرام استنكرها
عمر ، وأحس بالحرام فاستقاءه ، وهذا وذاك بتيسير من الله تعالى ، وصدق - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009617 " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " .
ونحن نشاهد في الأمور العادية أصحاب المهن والحرف كل واحد راض بعمله وميسر له ، وهكذا نظام الكون كله ، والذي يهم هنا أن كلا من الطاعة أو المعصية له أثره على ما بعده .
تنبيه .
قيل : إن هذه المقارنة بين :
من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " ، و "
من بخل واستغنى وكذب بالحسنى " ، واقعة بين
أبي بكر - رضي الله عنه - وبين غيره من المشركين .
ومعلوم أن العبرة بعموم اللفظ فهي عامة في كل من "
أعطى واتقى وصدق " ، أو "
بخل واستغنى وكذب " . والله تعالى أعلم .