المسألة الرابعة : جمهور العلماء على أن
السلطان الذي جعله الله في هذه الآية لولي المقتول ظلما يستلزم الخيار بين ثلاثة أشياء : وهي القصاص ، والعفو على الدية جبرا على
[ ص: 97 ] الجاني ، والعفو مجانا في غير مقابل ، وهو أحد قولي
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
قال
النووي في شرح
مسلم : وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ،
nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين وأحمد ،
وإسحاق ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ، وعزاه
ابن حجر في الفتح إلى الجمهور .
وخالف في ذلك
مالك ،
وأبو حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري رحمهم الله ، فقالوا : ليس للولي إلا القصاص ، أو العفو مجانا ، فلو عفا على الدية ، وقال الجاني : لا أرضى إلا القتل ، أو العفو مجانا ، ولا أرضى الدية ، فليس لولي المقتول إلزامه الدية جبرا .
واعلم أن الذين قالوا : إن الخيار للولي بين القصاص والدية اختلفوا في عين ما يوجبه القتل عمدا إلى قولين : أحدهما : أنه القود فقط ; وعليه فالدية بدل منه . والثاني : أنه أحد شيئين : هما القصاص والدية .
وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما لو عفا عن الجاني عفوا مطلقا ، لم يصرح فيه بإرادة الدية ولا العفو عنها . فعلى أن الواجب عينا القصاص فإن الدية تسقط بالعفو المطلق ، وعلى أن الواجب أحد الأمرين فإن الدية تلزم مع العفو المطلق . أما لو عفا على الدية فهي لازمة ، ولو لم يرض الجاني عند أهل هذا القول ، والخلاف المذكور روايتان عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأحمد رحمهما الله .
واحتج من قال : بأن الخيار بين القصاص والدية لولي المقتول بقوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007436من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفدى ، وإما أن يقتل " أخرجه الشيخان ،
nindex.php?page=showalam&ids=12251والإمام أحمد ، وأصحاب السنن من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه ; لكن لفظ
الترمذي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007996إما أن يقتل وإما أن يعفو " . ومعنى " يفدى " في بعض الروايات ، " ويودى " في بعضها : يأخذ الفداء بمعنى الدية . وقوله " يقتل " بالبناء للفاعل : أي يقتل قاتل وليه .
قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه نص في محل النزاع ، مصرح بأن ولي المقتول مخير بين القصاص وأخذ الدية ، وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء ، وهذا الدليل قوي دلالة ومتنا كما ترى .
واحتجوا أيضا بقوله تعالى :
فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان [ 2 \ 178 ] ، قالوا : إن الله جل وعلا رتب الاتباع بالدية بالفاء على العفو في قوله :
فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف الآية ، وذلك دليل واضح على أنه
بمجرد العفو تلزم الدية ، وهو دليل قرآني قوي أيضا .
[ ص: 98 ] واحتج بعض العلماء للمخالفين في هذا ;
كمالك وأبي حنيفة رحمهما الله بأدلة ، منها ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي : وهو أن الحجة لهم حديث
أنس في قصة
الربيع عمته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007447كتاب الله القصاص " ، فإنه حكم بالقصاص ولم يخير ، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم ; إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما ، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007997فهو بخير النظرين " ، أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية اه .
وتعقب
ابن حجر في " فتح الباري " احتجاج
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي هذا بما نصه : وتعقب بأن قوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007447كتاب الله القصاص " إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود ، فاعلم أن الكتاب الله نزل على أن المجني إذا طلب القود أجيب إليه ; وليس فيما ادعاه من تأخير البيان .
الثاني : ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي أيضا : من أنهم أجمعوا على أن
الولي لو قال للقاتل : رضيت أن تعطيني كذا على ألا أقتلك . أن القاتل لا يجبر على ذلك ، ولا يؤخذ منه كرها ، وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه .
الثالث : أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007997فهو بخير النظرين . . " الحديث جار مجرى الغالب فلا مفهوم مخالفة له ، وقد تقرر في الأصول : أن النص إذا جرى على الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة له ، لاحتمال قصد نفس الأغلبية دون قصد إخراج المفهوم عن حكم المنطوق . ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى :
وربائبكم اللاتي في حجوركم الآية [ 4 \ 23 ] ; لجريه على الغالب ، وقد ذكرنا هذه المسألة في هذا الكتاب المبارك مرارا .
وإيضاح ذلك في الحديث أن مفهوم قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007997فهو بخير النظرين " أن الجاني لو امتنع من قبول الدية وقدم نفسه للقتل ممتنعا من إعطاء الدية ، أنه يجبر على إعطائها ; لأن هذا أحد النظرين اللذين خير الشارع ولي المقتول بينهما ، والغالب أن الإنسان يقدم نفسه على ماله فيفتدي بماله من القتل . وجريان الحديث على هذا الأمر الغالب يمنع من اعتبار مفهوم مخالفته كما ذكره أهل الأصول ، وعقده في " مراقي السعود " بقوله في موانع اعتبار دليل الخطاب ، أعني مفهوم المخالفة :
[ ص: 99 ] أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
ومحل الشاهد قوله : " أو جرى على الذي غلب " إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة : أن ولي المقتول هو المخير بين الأمرين ، فلو أراد الدية وامتنع الجاني فله إجباره على دفعها ; لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك ، ودلالة الآية المتقدمة عليه ، ولأن الله يقول :
ولا تقتلوا أنفسكم الآية [ 4 \ 29 ] ، ويقول :
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ 2 \ 195 ] .
ومن الأمر الواضح أنه إذا أراد إهلاك نفسه صونا لماله للوارث : أن الشارع يمنعه من هذا التصرف الزائغ عن طريق الصواب ، ويجبره على صون دمه بماله .
وما احتج به
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي من الإجماع على أنه لو قال له : أعطني كذا على ألا أقتلك لا يجبر على ذلك ، يجاب عنه بأنه لو قال : أعطني الدية المقررة في قتل العمد فإنه يجبر على ذلك ; لنص الحديث والآية المذكورين .
ولو قال له : أعطني كذا غير الدية لم يجبر ، لأنه طلب غير الشيء الذي أوجبه الشارع ، والعلم عند الله تعالى .