وقد تعرض لهذه المباحث والمشكلات في الحديث شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ
محمد عبده في حاشيته على شرح
الجلال الدواني ( محمد بن أسعد الصديقي ) للعقائد
العضدية ، وعد ما أطال به إيجازا بالنسبة إلى ما يتسع له المقام . قال في أوله :
لا بد أن نتكلم في هذا الحديث بكلام موجز فاسمع واعلم أن هذا الحديث قد أفادنا أنه يكون في الأمة فرق متفرقة ، وأن الناجية منهم واحدة ، وقد بينهما النبي صلى الله عليه وسلم بأنها التي على ما هو عليه وأصحابه . وكون الأمة قد حصل فيها افتراق على فرق شتى تبلغ العدد المذكور أو لا تبلغه ثابت قد وقع لا محالة وكون الناجي منهم واحدة أيضا حق لا كلام فيه فإن الحق واحد ، هو ما كان النبي عليه وأصحابه ، فإن
ما خالف ما كان عليه النبي فهو رد ، وأما تعيين أي فرقة هي الناجية أي التي تكون على ما ( كان ) النبي عليه وأصحابه فلم يتعين لي إلى الآن ، فإن كل طائفة ممن يذعن لنبينا بالرسالة تجعل نفسها على ما كان عليه النبي وأصحابه ، حتى إن
ميرباقر الداماد برهن على أن جميع الفرق المذكورة
[ ص: 195 ] في الحديث هي فرق
الشيعة وأن الناجية منهم فرقة
الإمامية ، وأما
أهل السنة والمعتزلة وغيرهم من سائر الفرق فجعلهم من أمة الدعوة فكل يدعي هذا الأمر ويقيم على ذلك أدلة :
ثم ذكر الأستاذ أمثلة مما يقوله فلاسفة المسلمين وصوفيتهم وأشهر فرقهم فيما خالفوا فيه غيرهم وما استدلوا به على ذلك ، ومنها أحاديث موضوعة وهم لا يعلمون أنها موضوعة لجهل أكثرهم بالنقول . واعتمادهم على النظريات والآراء التي يسمونها المعقول . ثم قال :
" فكل يبرهن على أنه الفرقة الناجية الواقفة على ما كان عليه النبي وأصحابه وكل طائفة منهم متى رأت من النصوص ما يخالف ما اعتقدت أخذت في تأويله وإرجاعه إلى بقية النصوص التي تشهد لها ، فكل برهن على أنه الفرقة الناجية المذكورة في الحديث وكل مطمئن بما لديه وينادي نداء المحقق لما هو عليه . والوقوف على حقيقة الحق في ذلك يكون من فضل الله تعالى وتوفيقه . فإن للناظر أن يقول : يجوز أن تكون الفرقة الناجية الواقفة على ما كان عليه النبي وأصحابه قد جاءت وانقرضت ، وأن الباقي الآن من غير الناجية ، أو أن الفرق المرادة لصاحب الشريعة لم تبلغ الآن العدد . أو أن الناجية إلى الآن ما وجدت وستوجد . أو أن جميع هذه الفرق ناجية حيث إن الكل مطابق لما كان عليه النبي وأصحابه من الأصول المعلومة لنا عنهم كالألوهية والنبوة والمعاد ، وما وقع فيه الخلاف فإنه لم يكن يعلم عنهم علم اليقين وإلا لما وقع فيه اختلاف . وأن بقية الفرق ستوجد من بعد أو وجد منها بعض لم يعلم أو علم كمن يدعي ألوهية
علي كفرقة
النصيرية . وموجب هذا التردد أنه ما من فرقة إلا ويجدها الناظر فيها معضدة بكتاب وسنة وإجماع وما يشبه ذلك والنصوص فيها متعارضة من الأطراف . ومما يسرني ما جاء في حديث آخر أن الهالك منهم واحدة .
[ ص: 196 ] ونقول : إن هذا الكلام من الأستاذ يدل على أنه كان في عهد تأليفه لهذه الحاشية أيام اشتغاله بعلم الكلام في الأزهر ممتازا باستقلال الفكر وعدم التقليد والبراءة من التعصب ، مع الحرص على جمع كلمة المسلمين ، ولكنه كان ينقصه سعة الاطلاع على كتب الحديث وإذا لجزم بأن الذين هم على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم أهل الحديث وعلماء الأثر ، المهتدون بهدي السلف ، وأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ولا تزال منهم طائفة ظاهرة على الحق إلى أن تقوم الساعة كما ورد في الصحيح . وأنهم لا يمكن أن يكونوا أتباع أحد من علماء الكلام المبتدع . سواء منهم من ضر ومن نفع ولا من المقلدين في الفروع أيضا ، بل هم الذين يقدمون كلام الله وكلام رسوله على كل شيء ، ولا يؤولون شيئا منهما ليوافق مذهبا من المذاهب أو يؤيد عالما من العلماء كائنا من كان ، وإن كثيرا من المنسوبين إلى تلك المذاهب قد وصل باجتهاده إلى الحق فصار منهم وإذا لما سره حديث أن الهالك منهم واحدة لأنه لا تصح له رواية . وقد كان رحمه الله تعالى توغل في مذاهب الكلام والفلسفة والتصوف جميعا فهداه الله بإخلاصه إلى مذهب السلف الصالح مجملا ثم مفصلا . والرجوع عما خالفه من الكلام والتصوف تدريجا . وإننا نراه هنا قد أورد على تحقيق الفرقة الناجية إشكالات . ( خامسها ) إجماع أهل التحقيق على
بطلان التقليد ، وكونه يقتضي بطلان الاعتماد على تلك القضايا النظرية التي تواضع عليها أئمة كل طائفة فيما بينهم ، وزعموا أنها هي الحق الواقع ، وعد هذا تعصبا من أتباع كل رئيس وأخذا بأسباب العنت . ثم قال ما نصه :
" الحق الذي يرشد إليه الشرع والعقل ، أن يذهب الناظر المتدين إلى إقامة البراهين الصحيحة على إثبات صانع واجب الوجود ، ثم منه إلى إثبات النبوات ، ثم يأخذ كل ما جاءت به النبوات بالتصديق والتسليم بدون فحص فيما تكنه الألفاظ إلا فيما يتعلق بالأعمال على قدر الطاقة ، ثم يأخذ طريق التحقيق في تأسيس جميع عقائده بالبراهين الصحيحة ، كان ما أدت إليه ما كان ، لكن بغاية التحري والاجتهاد ، ثم إذا فاء من فكره إلى ما جاء من عند ربه فوجده يظاهره ملائما لما حققه فليحمد الله على ذلك ، وإلا فليطرق عن التأويل ويقول : (
آمنا به كل من عند ربنا ) ( 3 : 7 ) فإنه لا يعلم مراد الله ونبيه إلا الله ونبيه ، فعلى هذا المنوال يكون نسجه فيبوء من الله برضوان حيث أسس عقائده على السديد من البراهين ، واستقبل الأخبار الإلهية بالقبول والتسليم وتناولها بقلب سليم ، وإن أراد التأويل لغرض كدفع معاند ، أو إقناع جاحد ، فلا بأس عليه إذا سلم برهانه من التقليد والتشويش وهذا هو دأب مشايخنا كالشيخ
الأشعري والشيخ
أبي منصور ومن ماثلهم ، لا يأخذون قولا حتى يسددوه ببراهينهم القوية على حسب طاقتهم ، وهذا هو ما يعنى باسم السني
[ ص: 197 ] والصوفي والحكيم ، وكل متحزب مجادل فإنما يبغي العنت وتشتيت الكلمة فهو في النار ، وكل مقصر فعليه العار والشنار ، فاسلك سبيل السلف ، واحذر فقد خلف من بعدهم خلف ، ولا بد في كمال النجاة ونيل السعادة الأبدية من أن ينضم إلى ذلك التخلي عن الرذائل ، والتحلي بالأخلاق الكاملة ، والأعمال الفاضلة ، ومن تلك الأخلاق والأعمال تكميل قوة النظر وارتكاب طريق العدل في كل شيء ; إذ لا ريب في أن كل من خالف ما كان عليه النبي وأصحابه من الهمة والسداد والعدل والإنصاف وسلوك طريق الاستقامة في جميع الأخلاق والأعمال ، ونور البصيرة فيما يأخذ ويعطي ، فهو في النار أو يطهر ، ومن كان على ما كانوا عليه فهو في أعلى غرف الجنان ، وسالك هذا الطريق إما أن يكون سلوكه من قبل الالتفات إلى ما جاء في الكتاب والسنة وكلام أولي الفضل من الراشدين قديما وحديثا ، فذلك هو الحكيم العلي والمؤمن المتوسط . وإما أن يكون مع ذلك قد سلك بنفسه مدارج الأنوار ووقف على ما في ذلك من دقائق الأسرار حتى جلس في حياته هذه في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، فهو الصوفي وهو صاحب المقصد الأسنى والمطلوب الأعلى ، وفي هذا مراتب لا تحصى ومراق لا تستقصى ، وهذا وما قبله يشملها اسم المؤمن الصادق . فمن تحقق بهذا النور فله النجاة والحبور كان من كان ، فإن هذا هو المتحقق فيه ما كان النبي عليه وأصحابه ولنمسك القلم حيث إن المقصود هو الإيجاز والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ، فاسلك بنفسك طريق السداد وانظر فيما يكون لك بعين الرشاد " اهـ .