الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          بدء تفرق هذه الأمة :

                          كان المسلمون في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمة واحدة على ملة واحدة ، فكان أول خلاف نجم بينهم الخلاف على الإمارة ، فقال بعض زعماء الأنصار للمهاجرين ( رضي الله عنهما ) منا أمير ومنكم أمير وكان بعض آل بيت الرسول عليهم السلام يرون أنهم أولى بهذا الأمر من غيرهم ، وخاف عمر الفاروق رضي الله عنه بما كان عليه من بعد الرأي والحزم أن يحدث صدع في بنية الأمة قبل دفن رسولها ، فبادر إلى مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي لم يكن أحد ينكر مكانته في الإسلام سبقا وعلما وفهما ونصرا لله ولرسوله ، فتبعه السواد الأعظم من المهاجرين والأنصار ، وتلا ذلك علي ومن كان تأخر فتم الإجماع ، وإنما بايعه من أهل البيت ومن على رأيهم من كانوا يرون أن عليا كرم الله وجهه أولى منه بالأمر لأجل جمع الكلمة والخوف من التفرق الذي برئ الله ورسوله من أهله ، فإن الاجتماع والاتفاق هو سياج الدين وحفاظه ، فيرجح على كل ما عارضه من المصالح ، وكذلك بايعوا عمر وعثمان من بعده ، وكذلك تنازل الحسن عليه السلام لمعاوية عن الخلافة لترجيح هذه المصلحة على غيرها . [ ص: 198 ] وأما مقاومة بعض أئمة العترة وغيرهم للأمويين فلظلمهم وجعلهم الخلافة مغنما لهم وإرثا فيهم ، ومغرما وعذابا على من لم يتبع أهواءهم ، فهدموا بذلك قاعدة القرآن في الشورى وجعلوا إمامة الدين وخلافة النبوة ملكا عضوضا - كما أنبأت أحاديث دلائل النبوة وقد بين ذلك الإمام زيد بن علي إذ سئل عن سبب موالاته لأبي بكر وعمر مع اعتقاده أن جده الأعلى عليا المرتضى أولى منهما بالخلافة وخروجه على هشام الأموي ; إذ قال لسائله ما معناه : إن أبا بكر وعمر ولاهما جمهور الصحابة لأجل المصلحة الراجحة ، فأقاما الحق والعدل فتولاهما جده الأعلى لأنهما قاما بما كان هو يقوم به وكان هو قاضيهما ومستشارهما - فهو ( أي زيد ) يتولاهما كما تولاهما جده وهشام ليس كذلك . فالإمام زيد وأتباعه من المصلحين الذين يلقبون في عرف هذا العصر بالفدائيين الذين يقاومون الظلم بالثورات على الجائرين الظالمين ، إلى أن يثلوا عروشهم . ويريحوا الأمم من جورهم ، وجمهور أهل السنة يرجعون في هذه المسألة إلى قاعدة تعارض درء المفاسد وجلب المصالح ، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين في مقاومة الظلم وأهله لئلا يفضي إلى فتنة التفرق والشقاق ولكنهم أيدوا الظالمين وأطاعوهم بشبهة هذه القواعد حتى ضاع الإسلام وشرعه وتضعضع كل ملك لأهله ; لأنهم لم يحكموا تحكيمها وتطبيقها .

                          وقد رفض غلاة الشيعة الإمام زيدا إذ أبى قبول ما اشترطوه عليه لاتباعه ، وهو البراءة من أبي بكر وعمر فلذلك سموا الرافضة ، ولماذا اشترطوا البراءة من أبي بكر وعمر دون عثمان بل دون معاوية ويزيد ؟ ! إن أكثر الشيعة الصادقين من المتقدمين والمتأخرين لم يكونوا يعرفون هذا ولو فكروا فيه لعرفوه وعرفوا بمعرفته كيف جرفهم تيار دسائس المجوس أصحاب الجمعيات السرية العاملة للانتقام للمجوسية من الإسلام الذي أطفأ نارها وثل عرش ملكها على يد أبي بكر وعمر ، اللذين كانا يفضلان آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على آلهما ، فتلك الجمعيات المجوسية بثت دسائسها في الشيعة لأجل التفريق بين المسلمين وإزالة ذلك الاتحاد الذي بني على أساسه مجد الإسلام من حيث لا يشعرون .

                          لم توجد في الدنيا جمعيات أدق نظاما وأنفذ سهاما من جمعيات الباطنية التي أسسها عبد الله بن سبإ اليهودي ومجوس فارس لإفساد الدين الإسلامي وإزالة ملك دعاته العرب فقد راجت دسائسها في شيعة آل بيت الرسول من المسلمين الذين كانوا يرون أنهم أحق بملك الإسلام ، بل راج بعضها في سائر المسلمين أيضا ، ولكن الإسلام كان أقوى في نفسه فبينما كانت تلك الدسائس تعمل عملها في الحجاز والمغرب وغيرهما من بلاد العرب والبربر كان الإسلام ينتشر في أمة الفرس النبيلة ، وكتب السنة والتفسير وفنون العربية تدون في مدنها بأقلام أبناء فارس ومن استوطن من العرب ، وتنشر في مشارق [ ص: 199 ] الأرض ومغاربها تؤيد هذا الدين القويم ولغته ، وقد صار لأولئك الباطنية دولة عربية في مصر ولم يكن لهم دولة في بلاد الفرس ، ولم تستطع دولتهم في مصر أن تقضي على الإسلام ولا أن تعيد المجوسية وتجعل لها ملكا ; لأنها لما كان لها ظاهر هو الإسلام على مذهب الشيعة الذي كان مذهبا سياسيا فصار مذهبا دينيا ، ولها باطن سري لا يعرفه إلا رؤساء الدعاة - ولما كان المنتحلون لها من العرب والبربر جاهلين بأصلها وبما وضعت له - غلبت الصبغة الدينية فيها على الصبغة السياسية ، وكان عاقبة دعوتها أن مرق بعض الشيعة من الإسلام في الباطن ، واتخذوا التعاليم الباطنية دينا يدينون به فيقولون بألوهية بعض آل البيت ويعبدونهم بضروب من العبادات ، ويتأولون آيات القرآن تأولا يحتجون به على تلك التعاليم ، وهم لا يدرون أن الغرض الأول من القول بعصمة بعض آل البيت ثم القول بألوهية بعضهم هو إبطال دين جدهم وإزالة ملكه من آله وسائر قومه . ومن الغريب أن الباطنية تجدد لها دين جديد في هذا العصر مبني على القول بألوهية رجل من غير آل البيت وهو البهاء الإيراني والد " عباس عبد البهاء " - وبقي سائر الشيعة مسلمين يؤمنون بالله وبأن محمدا خاتم رسل الله ، ويصلون ويصومون ويؤدون زكاة أموالهم ويحجون البيت من استطاع منهم إليه سبيلا ، ومنهم من لا يزال يغلو في آل البيت غلوا يختلف حكم الشرع فيه ، ويطعن في أبي بكر وعمر وجمهور الصحابة ظنا منه أنه ينتصر بذلك لآل البيت ، غافلا عن كون أئمة آل البيت علي وأولاده كانوا أولياء وأنصارا لأبي بكر وعمر ، فإن صح أن هذا كان تقية منهم لأجل مصلحة الإسلام فلماذا لا يكفون هم عن الشقاق والتفريق بين المسلمين بالطعن فيهما لأجل مصلحة الإسلام ؟ .

                          أضعفوا الإسلام بهذا التفرق الذي نهى عنه القرآن ، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم بريئا من أهله ، وكل شيعة وفرقة تظن أنها بهذا التفرق والخلاف تنصر الإسلام وتؤيده ، فكانت عاقبة أمر المسلمين أن ضعف ملكهم على اختلاف مذاهبهم ، وكادت الإفرنج تستعبد الدول والإمارات الإسلامية كلها ، ومنها ما يعد سنيا وما يسمى شيعيا إماميا وما يدعى شيعيا زيديا ، ونحمد الله أن عرف جمهورهم بهذا الخطر حقية ما بيناه مرارا ، وهو أن ذلك التفرق كان من فساد السياسة ، وستجمعهم السياسة كما فرقتهم السياسة ، إلا من ارتدوا بالعصبية القومية الجاهلية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية