وأما تعليله تخصيص الإذن في الأحاديث بالصوم والصدقة والحج دون القراءة بقوله
[ ص: 229 ] إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك ، بل خرج مخرج الجواب ولم يمنعهم مما سوى ذلك ولا فرق بين الصوم والقراءة - فجوابه : أن عدم ابتداء الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بذلك على إطلاقه دليل على أنه ليس من دينه ، وإلا لم يكن مبينا لما أنزل إليه كما أمر به وهذا محال . وسؤال أولئك الأفراد إياه دليل على أنهم لم يكونوا يعلمون من نصوص الدين ولا من السنة العملية ما يدل على شرعيته فلذلك استفتوه فيه ، ولم يستفتوه في العمل على غير الوالدين لنص القرآن في منعه .
وأما
الفرق بين وصول ثواب الصيام ووصول ثواب الذكر ، فقد بينا آنفا أنه لا دليل على وصول ثواب الصيام مطلقا من كل من يصوم عن ميت حتى يقاس عليه غيره ، لأن ما ذكر من أحاديث الصيام خاص بالقضاء من الولد نيابة عن الوالد ، وليس فيه أنه عمله لنفسه وأهدى ثوابه لغيره كما تقدم ، على أن هذا مما ورد على خلاف القياس فلا يقاس عليه .
وأما قوله : إن القائل بأن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به إلخ . فجوابه : أن الذي يثبت ما ذكر للسلف أجدر بقول ما لا علم له به ، وناهيك به إذا كان معترفا بأنه لم ينقل ذلك عن أحد منهم ، والنفي هو الأصل ، وحسب النافي نفيه للنقل عنهم في أمر تدل الآيات الصريحة على عدم شرعيته ، ويدل العقل وما علم بالضرورة من سيرتهم أنه لو كان مشروعا لتواتر عنهم أو استفاض .
وأما قوله : وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل إلخ . فلم نكن ننتظره من أستاذنا ومرشدنا إلى اتباع النقل في أمور الدين دون النظريات والآراء ، على أن هذه القاعدة النظرية غير مسلمة ; فإن الثواب أمر مجهول بيد الله تعالى وحده كأمور الآخرة كلها ، فإنها من علم الغيب التي لا مجال للعقل فيها . وما وعد الله تعالى به المؤمنين الصالحين المخلصين له الدين من الثواب على الإيمان والأعمال بشروطها لا يعرفون كنهه ولا مستحقه على سبيل القطع ; ولذلك أمروا بأن يكونوا بين الخوف والرجاء ، ولا يوجد في الآيات ولا الأخبار الصحيحة ما يدل على أن العامل يملك ثواب عمله وهو في الدنيا كما يملك الذهب والفضة أو القمح والتمر فيتصرف فيه كما يتصرف فيها بالهبة والبيع ، بل ذلك جزاء بيد الله تعالى أعده للذين آمنوا وعملوا الصالحات بحسب تأثير الإيمان والعمل في إعداد أنفسهم له بتزكيتها وجعلها أهلا لجواره ورضوانه كما قال : (
ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) ( 20 : 75 ، 76 )
( قد أفلح من تزكى ) ( 87 : 14 ) إلخ (
قد أفلح من زكاها ) ( 91 : 9 ) (
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ( 9 : 103 ) وقال : (
سيجزيهم وصفهم ) ( 6 : 139 )
[ ص: 230 ] فذكر الوصف على إطلاقه وتقدم تفسيره ، وذكر في آيات أخرى الصفات العامة التي هي مصدر جميع الأعمال ، وهي الصبر والشكر والصدق ومنها ما ذكر بصيغة الحصر . فهذه الآيات الكثيرة الصريحة المعنى المعقولة الحكمة وسائر آيات الجزاء والآيات النافية للعدل والفداء ، والآيات النافية لملك نفس لنفس شيئا من الأشياء في الآخرة ، تؤيد كلها آية الأنعام التي نحن بصدد تفسيرها وآيات النجم وغيرها ، وتبطل دعوى ملك الإنسان لثواب عباداته وتصرفه بها ، ولو كان الثواب كالمال يوهب لكان يباع ويشترى ، ولو كان كذلك لكان كثير من الفقراء يبيعون ثواب كثير من أعمالهم للأغنياء ، وحاش لله ولحكمة دينه من ذلك . وعمل الخلف وحده في أمر تعبدي كهذا لا حجة فيه ، على أنهم لم يجمعوا عليه .
فإن قيل : إن
انتفاع الميت بعمل أولاده ينافي القاعدة التي ذكرتها في الجزاء أيضا ، فإن من لم يزك نفسه في الدنيا بالإيمان والأعمال الصالحة وما تطبعه في النفس من الصفات والأخلاق الحسنة لا يزكيها عمل أولاده من بعده - قلنا : نعم إن هذا هو الأصل ، ولكن من بيده أمر الثواب والعقاب استثنى من عموم هذا الأصل ، لا بل ألحق به شيئا ينقضه ولا يذهب بحكمته ، وهو انتفاع بعض الوالدين المؤمنين ببعض عمل أولادهم ، أو جعله منه بالتبع والسببية ، كما أدخل في عمومه انتفاع من سن سنة خير من علم أو عمل بعمل من استن بسنته وعمل بعلمه أو اقتدى بعمله ، من غير أن ينقص من ثواب هؤلاء وأولئك شيء كما ثبت في حديث الصحيحين . وروى أصحاب السنن وغيرهم بأسانيد يحتج بها أنه صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919858أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وولده من كسبه " ، وفي رواية "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919859ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919860وقال صلى الله عليه وسلم لمن ذكر له أن والده يحتاج إلى ماله : أنت ومالك لأبيك " رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه بسند صحيح .
وجملة القول : إن
ثواب الأعمال ليس أعيانا مملوكة للعامل يتصرف فيها كما يشاء ، بل هو جزاء من فضل الله تعالى ، وهو نوعان ( أحدهما ) ما يكون مرتبا على تأثير الأعمال في تزكية النفس مباشرة وهو ما بيناه آنفا . ( وثانيهما ) ما يترتب على الأعمال التي يتعدى فيها نفع العامل إلى غيره ، كالسنة الحسنة والصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به والولد الصالح الذي يدعو له ، أو يقضي دين الله أو الناس أو يتصدق عنه ، وتقدمت الأحاديث الصحيحة في ذلك . وهذه تكون بقدر انتفاع الناس من هذه الأعمال لا بحسب تأثير العامل في السببية لها عند مباشرته للسبب ، كتأليف الكتاب وتربية الولد . وفوق ذلك كله مضاعفة الله لمن يشاء بفضله .