الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          " وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف ، فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى ، ولا كانوا يعرفون ذلك ألبتة ، ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم ، ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت ولا ثواب هذه الصدقة والصوم ، ثم يقال لهذا القائل : لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال اللهم اجعل ثواب هذا الصوم لفلان - لعجزت فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر ، فلم يكونوا ليشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم " .

                          " فإن قيل : فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والصدقة دون القراءة قيل هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم ، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له ، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له ، ولم يمنعهم مما سوى ذلك . وأي فرق بين وصول ثواب الصيام الذي هو مجرد نية وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر ؟ والقائل أن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به ; فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه ، فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه ؟ بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم " .

                          " وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل ، فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه ، فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على المرء أن يوصله إلى أخيه ؟ [ ص: 228 ] وهذا عمل الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء " اهـ .

                          أقول وبالله التوفيق والهداية : عفا الله عن شيخنا وأستاذنا المحقق ، فلولا الغفلة عن تلك المسألة الواضحة لما وقع في هذه الأغلاط التي نردها عليه ببعض ما كان يردها هو في غير هذه الحالة ، وسبحان من لا يغفل ولا يعزب عن علمه شيء .

                          أما قوله لمورد السؤال إذا كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام : ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن إلخ فنجيب عنه على طريقتنا بأن المانع لذلك نصوص القرآن التي تقدمت في أن عمل كل عامل له دون غيره ، والسائل إنما يعترف بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لمن سأله عن قضاء صيام وحج ثبتا على أحد والديه ، وكذا عن الصدقة ولا سيما عمن لم يوص بها من الوالدين هل يفعلون ذلك عن والديهم ؟ فأذن لهم بأن يقضوا دين الله عنهم كما يقضون ديون الناس ، وأن يتصدقوا عنهم - فهذه حقوق ثبتت على الوالدين ، أو صدقة كان المتوقع من أحدهم الوصية بها فقام مقامهم أولادهم فيها أو تبرعوا عنهم ، فهي ليست كقراءة القرآن التي ليست مفروضة على الأعيان في غير الصلاة كالحج والصيام ، ولا من الأعيان المملوكة كالمال الذي كان ملك الميت وانتقل إلى ولده ، أو من كسب الولد الذي عد في الحديث الصحيح من كسب الوالد كما يأتي قريبا ، وقد ألحقه الله تعالى به في قوله : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) ( 52 : 21 ) وبهذا كانت غير معارضة لتلك الآيات ، ولو عارضتها لكانت هي المرجوحة الساقطة بها ، فبطل قوله : وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات - إذ العمل مختلف والعامل المأذون له به خصوصية ليست لغيره فلا تماثل .

                          وأما تعليله عدم نقل شيء من هذه الأعمال عن السلف الذي اعترف به وأيده بأنهم كانوا يكتمون أعمال البر - فجوابه أنه ما من نوع من أنواع البر المشروعة إلا وقد نقل عنهم فيه الكثير الطيب ، حتى الصدقات التي صرح القرآن بتفضيل إخفائها على الإبداء تكريما للفقراء وسترا عليهم ، ولما قد يعرض فيها من المن والأذى والرياء المبطلة لها . وقراءة القرآن للموتى ليست كذلك حتى إن المراءاة بها مما لا يكاد يقع ; لأن الذي يقرأ لغيره لا يعد من العباد الممتازين على غيرهم فيكتمه خوف الرياء . ثم أين الذين نصبوا أنفسهم للإرشاد والقدوة والدعوة إلى الخير من الصحابة والتابعين ، لم لم يؤثر عنهم قول ولا فعل في هذا النوع من البر الذي عم بلاد الإسلام بعد خير العصور لو كان مشروعا ؟ فهل يمكن أن يقال إنهم كانوا يتركون الأمر بالبر كما قيل جدلا إنهم أخفوا هذا النوع منه وحده ؟ كلا ، إنهم كانوا هداة بأقوالهم وأعمالهم ، وتأثير الأعمال في الهداية أقوى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية