(
والوزن يومئذ الحق ) قال
الراغب : الوزن معرفة قدر الشيء . يقال وزنته وزنا وزنة . والمتعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسط والقبان اهـ . وتفسيره الوزن بالمعرفة تساهل ، وإنما هو عمل يراد به تعرف مقدار الشيء بالآلة التي تسمى الميزان وهو مشتق منه ، وبالقسطاس وهو من القسط ومعناه النصيب العادل أو بالعدل كما قال
الراغب ، وأطلق على العدل مجازا ، وكذا الميزان ومنه قوله تعالى : (
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ) ( 4 : 17 ) وقوله في الرسل كافة : (
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ( 57 : 25 ) ومن كلام العرب استقام ميزان النهار . إذا انتصف . وليس لفلان وزن - أي قدر لخسته . ومنه قوله تعالى : (
فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) ( 18 : 105 ) قال
الراغب وقوله : (
والوزن يومئذ الحق ) ( 7 : 8 ) فإشارة إلى العدل في محاسبة الناس كما قال : (
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) ( 21 : 47 ) أي ولذلك . قال عقبه (
فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) ( 21 : 47 ) والتجوز بالوزن والميزان في الشعر كثير .
ومعنى الجملة : والوزن في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم ، ويقص عليهم كل ما كان منهم ، هو الحق الذي تحق به الأمور وتعرف به حقيقة كل أحد وما يستحقه من الثواب والعقاب . وذهب أكثر علماء الإعراب إلى أن المعنى : أن الوزن الحق كائن يومئذ ، لا أن الوزن يومئذ حق ، فالحق صفة للوزن ويومئذ هو الخبر عنه أو المعنى والوزن كائن يومئذ وهو الحق ، والأول أظهر .
(
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ) قيل : إن الموازين جمع ميزان فهي متعددة لكل امرئ ميزان وقيل : لكل عمل . والجمهور على أن الميزان واحد وأنه يجمع باعتبار المحاسبين وهم الناس أو على حد قول العرب : سافر فلان على البغال وإن ركب بغلا واحدا ، وقيل : إن الموازين جمع موزون ، والمعنى فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرة حسناته فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب والنعيم في دار الثواب (
ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون )
[ ص: 284 ] أي ومن خفت موازين أعماله بالكفر وكثرة سيئاته فأولئك الذين خسروا أنفسهم ، إذ حرموا السعادة التي كانت مستعدة لها لو لم يفسدوا فطرتها بالكفر والمعاصي ، بسبب ما كانوا يظلمونها بكفرهم بآيات الله مستمرين على ذلك مصرين عليه إلى نهاية أعمارهم ، كما يدل عليه التعبير بالمضارع ، وعدي الظلم بالباء لتضمنه معنى الكفر وسيأتي مثله في هذه السورة ( آية 103 ) وفي غيرها .
وظاهر هذا التقسيم أنه لفريقي المؤمنين على تفاوت درجاتهم في الفلاح ، والكافرين على تفاوت درجاتهم في الخسران ، فإن من مات مؤمنا فهو مفلح وإن عذب على بعض ذنوبه بقدرها ، فهذا الوزن الإجمالي الذي يمتاز به فريق الجنة وفريق السعير ، وهنالك قسم ثالث استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم أصحاب الأعراف وسيأتي ذكرهم في هذه السورة ، ويتبع الوزن الإجمالي الوزن التفصيلي للفريقين ، ولكن بعض العلماء يقولون : إن الوزن للمؤمنين خاصة ؛ لأنه تعالى قال في الكافرين : (
فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) وأجاب الآخرون بأن معناه ما تقدم آنفا في بحث الوزن في اللغة من أنه لا يكون لهم قيمة ولا قدر ، وهو لا ينفي وزن أعمالهم وظهور خفتها وخسرانهم واستدلوا على ذلك بقوله تعالى من سورة المؤمنين : (
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ) ( 23 : 102 - 105 ) ومن المستغرب أن شيخ الإسلام
ابن تيمية قال بعد ذكر آيتي الموازين في الثقل والخفة من سورة المؤمنين : إن
الكفار لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته ؛ إذ لا حسنات لهم ، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقرون بها ويجزون بها . وهو سهو سببه - والله أعلم - ما كان علق بذهنه من هذا القول ، وما من كافر إلا وله حسنات ولكن الكفر يحبطها فتكون هباء منثورا وهي تحصى مع السيئات وتضبط بالوزن الذي به يظهر مقدار الجزاء وتفاوتهم فيه ، واستدلوا على
تخفيف العذاب عن الكافر بسبب عمله الصالح بما ورد في الصحيح من التخفيف عن
أبي طالب بما كان من حمايته للنبي صلى الله عليه وسلم وحبه له ، وزعم بعضهم أن ذلك خاص به ، ويصح أن تكون الخصوصية في نوع التخفيف ومقداره ، إذ من المتفق عليه والمجمع عليه أن عذاب الكفار متفاوت ، ولا يعقل أن يكون عذاب
أبي جهل كعذاب
أبي طالب لولا الخصوصية ، والله تعالى يقول : (
إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) ( 4 : 40 ) ومن المشاهد في كل زمان أن من الكفار من يحب الله ويعبده ولا يشرك به ، والمشركون منهم إنما أشركوا معه غيره في الحب والعبادة كما قال في
[ ص: 285 ] أندادهم : (
يحبونهم كحب الله 2 : 165 ) - وهو يتضمن إثبات حبهم لله - ويتصدقون ويصلون الأرحام ويفعلون غير ذلك من أعمال البر ، ويمتنعون عن الفواحش خوفا من الله . فهل يسوي الحكم العدل بينهم وبين مرتكبي الفواحش والمنكرات والجنايات من الكفار ولا سيما الجاحدين المعطلين ومكذبي الرسل منهم ؟ حاش لله . نعم صح الحديث عن
مسلم بأنهم يجازون على حسناتهم في الدنيا ، وهو لا يمنع وزنها في الآخرة وألا يكون لها مع الكفر والسيئات دخل في رجحان موازينهم .
وجملة القول : أن
المسلمين اختلفوا في هذا الوزن والموازين ، هل هي عبارة عن العدل التام في تقدير ما به يكون الجزاء من الأعمال وتأثيرها في إصلاح الأنفس وتزكيتها ، وفي إفسادها وتدسيتها ، أم هناك وزن حقيقي ، حكمته إظهار علم الله تعالى بأعمال العباد وعدله في جزائهم عليها ؟ ذهب إلى الأول
مجاهد من مفسري السلف - وكذا
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش والضحاك حكاه
الرازي عنهما -
والجهمية والمعتزلة قال
مجاهد في الآية كما في الدر المنثور (
والوزن يومئذ الحق ) قال : العدل (
فمن ثقلت موازينه ) قال حسناته . (
ومن خفت موازينه ) قال سيئاته اهـ . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير نحوه عنه وسيأتي فيما لخصه الحافظ
ابن حجر .
والجمهور على الثاني ، بل قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416أبو إسحاق الزجاج - كما نقل الحافظ عنه - أجمع أهل السنة على
الإيمان بالميزان ، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة ، وأن
الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال . وأنكرت
المعتزلة الميزان وقالوا هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك : أنكرت
المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها . قال : وقد روى بعض المتكلمين عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها . انتهى .
نقل الحافظ
ابن حجر ما ذكر في شرح آخر باب من أبواب
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وهو ( باب قول الله : (
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) ( 21 : 47 ) وأن أعمال بني
آدم وقولهم توزن ) وقفى عليه بقوله : وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء فأسند
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16406ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله تعالى : (
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) قال : إنما هو مثل ، كما يجوز وزن الأعمال كذلك يجوز الحط ومن طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16861ليث بن أبي سليم عن
مجاهد قال : الموازين العدل . والراجح ما ذهب إليه الجمهور . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=15113أبو القاسم اللالكائي في السنة عن
سليمان قال : يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السموات والأرض ومن فيهن لوسعته - ومن طريق
[ ص: 286 ] nindex.php?page=showalam&ids=16486عبد الملك بن أبي سليمان : ذكر الميزان عند
الحسن فقال : له لسان وكفتان . وقال
الطيبي : قيل إنما توزن الصحف . وأما الأعمال فإنها أعراض فلا توصف بثقل ولا خفة . والحق عند أهل السنة أن
الأعمال حينئذ تجسد أو تجعل في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة وأعمال المسيئين في صورة قبيحة ثم توزن ، ورجح
القرطبي أن الذي يوزن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال ، ونقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر قال : توزن صحائف الأعمال قال : فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيرتفع الإشكال ، ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه
الترمذي وحسنه
والحاكم صححه وفيه "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919883فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة " انتهى . والصحيح أن الأعمال هي التي توزن ، وقد أخرج
أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وصححه
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919884ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن " وفي حديث
جابر رفعه "
توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة ، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار - قيل : ومن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال : أولئك أصحاب الأعراف " أخرجه
خيثمة في فوائده ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك في الزهد عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود نحوه موقوفا . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=15113أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن
حذيفة موقوفا أن
صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام اهـ . ما لخصه الحافظ
ابن حجر من أقوال أهل السنة .