الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أقول : وقد استقصى السيوطي في تفسير الآية من الدر المنثور ما ورد في الميزان أو الوزن من الروايات الصحيحة والسقيمة أو جله ، وليس في الصحيحين منها إلا ما ختم به البخاري صحيحه وهو حديث أبي هريرة المرفوع " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " وإذا لم يكن في الصحيحين ولا في كتب السنن المعتمدة حديث صحيح مرفوع في صفة الميزان ولا في أن له كفتين ولسانا فلا نغتر بقول الزجاج . إن هذا مما أجمع عليه أهل السنة . فإن كثيرا من المصنفين يتساهلون بإطلاق كلمة الإجماع ولا سيما غير الحفاظ المتقنين ، والزجاج ليس منهم ، ويتساهلون في عزو كل ما يوجد في كتب أهل السنة إلى جماعتهم ، وإن لم يعرف له أصل من السلف ، ولا اتفق عليه الخلف منهم ، وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف والخلف كما علمت ، فاختلف علماء أهل السنة القائلون بأن الوزن بميزان ، هل هو ميزان واحد أم لكل شخص أو لكل عمل ميزان ؟ وفي الموزون به حتى قيل إنه الأشخاص لا الأعمال ، وفي صفة الموزون والوزن ، وفيمن يوزن لهم ، أللمؤمنين خاصة أم لهم وللكفار ؟ وفي صفة الخفة والثقل وفيها ثلاثة أقوال .

                          [ ص: 287 ] ولهذا الخلاف ثلاثة أسباب : ( أحدها ) اختلاف الأخبار والآثار عن السلف وأكثرها لا يصح ولا يحتج بمثله في الأحكام العملية فضلا عن المسائل الاعتقادية .

                          ( ثانيها ) الاختلاف في فهمها .

                          ( ثالثها ) الرأي والتخيل والقياس مع الفارق فإن الخلف من المنتمين إلى مذاهب السنة خاضوا فيما خاض فيه غيرهم من تحكيم الرأي في أمور الغيب ، فالمعتزلة أخطئوا في قياس عالم الغيب على عالم الشهادة وإنكار وزن الأعمال بحجة أنها أعراض لا توزن وأن علم الله بها يغني عن وزنها ، ورد عليهم بعض المنتمين إلى السنة ردا مبنيا على أساس مذهبهم في قياس عالم الغيب على عالم الشهادة ، وتطبيق أخبار الآخرة على المعهود المألوف في الدنيا فزعموا أن الأعمال تتجسد وتوزن أو توضع في صور مجسمة أو أن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال هي التي توزن بناء على أنها كصحائف الدنيا إما رق ( جلد ) وإما ورق .

                          والأصل الذي عليه سلف الأمة في الإيمان بعالم الغيب أن كل ما ثبت من أخباره في الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه ، نؤمن به ولا نحكم رأينا في صفته وكيفيته . فنؤمن إذا بأن في الآخرة وزنا للأعمال قطعا ، ونرجح أنه بميزان يليق بذلك العالم يوزن به الإيمان والأخلاق والأعمال ، لا نبحث عن صورته وكيفيته ولا عن كفتيه إن صح الحديث فيهما كما صوره الشعراني في ميزانه . ويؤخذ من آيات كثيرة أن ذلك يكون باعتبار تأثيرها في النفس من تزكية أو تدسية وهو ما يترتب عليه جل الجزاء كما تقدم شرحه . وإذا كان البشر قد اخترعوا موازين للأعراض كالحر والبرد ، أفيعجز الخالق البارئ القادر على كل شيء عن وضع ميزان للأعمال النفسية والبدنية المعبر عنها بالحسنات والسيئات بما أحدثته في الأنفس من الأخلاق والصفات ؟ ! والنقل والعقل متفقان على أن الجزاء إنما يكون بصفات النفس الثابتة لا بمجرد ما كان سببا لها من الحركات والأعراض الزائلة : قال تعالى : ( سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ) ( 6 : 139 ) وقال في سورة الشمس : ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) ( 91 : 7 - 10 ) وفي سورة الأعلى : ( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ) ( 87 : 14 ، 15 ) وقد حققنا هذا البحث في مواضع من التفسير آخرها تفسير خاتمة سورة الأنعام .

                          وتقدم أن حكمة وزن الأعمال بعد الحساب أنه يكون أعظم مظهر لعدل الرب تبارك وتعالى ، أي لعلمه وحكمته وعظمته في ذلك اليوم العظيم ، إذ يرى فيه عباده أفرادا [ ص: 288 ] وشعوبا وأمما ذلك بأعينهم ، ويعرفونه معرفة إدراك ووجدان في أنفسهم ، فإن أعمالهم تتجلى لهم فيها أولا ، ثم تتجلى لهم ولسائر الخلق في خارجها ثانيا ، فيا له من منظر مهيب ، ويا له من مظهر رهيب ، وما أشد غفلة من قال إنه لا حاجة إليه ، للاستغناء بعلم الله عنه .

                          ولولا تحكيم الناس الرأي والخيال فيما لا مجال لهما فيه من أمور الغيب ، واهتمامهم بكل ما روي فيه عن المتقدمين ، لكنا في غنى عن إطالة الكلام في حكاية تلك الاختلافات ، بالاختصار في بيان العقائد على ما ثبت في آيات الكتاب العزيز ، ثم الأحاديث الصحيحة المخرجة في دواوين السنة المشهورة ، دون الشاذة والغريبة ، ومن هذه الأحاديث الغريبة في هذا الباب " حديث البطاقة " الذي سبقت الإشارة إليه فقد رواه الترمذي في " باب من يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا ولفظه " إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول : ألك عذر ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . فيقول : احضر وزنك - فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فقال : فإنك لا تظلم . ( قال ) فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء " قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . ورواه الحاكم وصححه وتصحيح الحاكم لا يعول عليه ولو لم يكن في سند هذا الحديث عنده ممن تكلم فيهم غير عبد الله بن شريك الذي بالغ الجوزجاني فوصفه بالكذب لكفى . ورواه ابن حبان وفي سنده عبد الله بن عمر الخراساني قالوا : إن له مناكير . وطريق الجميع واحدة . وجعله دليلا على كون الميزان ذا كفتين ولسان غير متعين لإمكان جعل الكلام استعارة مكنية ، وجعل الكفة ترشيحا لها فإن باب المجاز في رجحان العقول والآراء والأقوال والأشخاص بعضها على بعض واسع جدا ، والتعبير عنها بالوزن والميزان كثير كما قلنا ، والمراد أن الحديث لا ينهض بسنده ولا بدلالته حجة على عقيدة قطعية ولا راجحة ، وقد رأيت كيف أن الحافظ بعد أن نقل عن القرطبي ترجيح وزن الصحف والاستدلال عليه بالحديث تقوية لأثر ابن عمر به - قال : والصحيح أن الأعمال هي التي توزن ، واستدل بحديث وزن الأخلاق وهو صحيح ، وقد عده معارضا لحديث البطاقة الذي لا يبلغ درجته في الصحة .

                          وقد استشكل العلماء متن هذا الحديث بأنه يدل على أن كلمة من ذكر الله ترجح [ ص: 289 ] على ما لا يحصى من الذنوب وذلك يفضي إلى إباحتها والإغراء بها ، وإلى ترك الواجبات وهو مخالف لكثير من النصوص القطعية ، واستدل به المرجئة على قولهم : إنه لا يضر مع الإيمان ذنب . وأجاب الجمهور بأجوبة لعل أقواها ما أشار إليه الترمذي من أن وجه تخليص صاحب البطاقة بالشهادتين أنه مات على الإيمان ، والظاهر أنه كان كافرا فآمن فمات قبل أن يتمكن من الأعمال الصالحة ولا خلاف في نجاة مثله .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية