(
يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون )
بعد أن
قص الله تعالى على بني آدم قصة نشأتهم الأولى وما خلقوا مستعدين له من السعادة ونعيم الجنة ، وما يصدهم عن ذلك من وسوسة الشيطان وإغوائه ، رتب عليها هذه النصائح الهادية لهم إلى أقوم طرق تربيتهم لأنفسهم - كما قلنا في بيان تناسب الآيات في أول ذلك السياق - فقال :
(
يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ) الريش : لباس الحاجة والزينة مستعار من ريش الطائر ، وليس في أجناس الحيوان كالطير في كثرة أنواع ريشها وبهجة مناظرها وتعدد ألوانها . فهي جامعة لجميع المنافع ، والزينة ، ومنها ما هو أجمل من جميع ما في الطبيعة ، وقرأ
أبو زيد عن المفضل ( ورياشا ) وهو مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15916زر بن حبيش nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن البصري وفيه حديث مرفوع قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في إسناده نظر . قيل : الرياش جمع ريش ، فهو كشعب
[ ص: 319 ] وشعاب وذئب وذئاب ، وقال
الجوهري الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس ، وهو اللباس الفاخر . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12758ابن السكيت الرياش مختص بالثياب والأثاث ، والريش قد يطلق على سائر الأموال . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : ويحتمل أن يكون أراد به مصدرا من قول القائل راشه الله يريشه رياشا وريشا . كما يقال لبسه يلبسه لباسا ولبسا ( بكسر اللام ) ( ثم قال ) والرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار والريش إنما هو المتاع والأموال عندهم . وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال ، يقولون : أعطاه سرجا بريشه - أي بكسوته وجهازه ، ويقولون : إنه لحسن ريش الثياب . وقد يستعمل الرياش في الخصب ورفاهة العيش . ثم نقل عن بعض مفسري السلف ما يؤيد هذه الأقوال ، فعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ومجاهد والسدي nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير أن الريش المال ، وعن آخرين أنه المعاش أو الجمال ، والمختار عندنا من هذه الأقوال أنه لباس الحاجة والزينة معا ، بدليل اقترانه بلباس الستر الذي يواري العورات ولباس التقوى .
خاطب الله تعالى بني
آدم في هذه الآية وأمثالها بالنداء الذي يخاطب به البعيد لما كان عليه عربهم وعجمهم عند نزول هذه السورة في
مكة من البعد عن الفطرة السليمة ، والشرعة القويمة ، تنبيها للأذهان ، بما يقرع الآذان ، فامتن عليهم - بعد أن أنبأهم بما كان من عري سلفهم الأول - بما أنعم به عليهم من اللباس على اختلاف درجاته وأنواعه ، من الأدنى الذي يستر السوءة عن أعين الناس إلى أنواع الحلل التي تشبه ريش الطير في وقاية البدن من الحر والبرد بستر جميع البدن ، وما في ذلك من أنواع الزينة والجمال اللائقة بجميع ذكران البشر وإناثهم على اختلاف أسنانهم وأحوالهم ، فهو يقول : يا بني
آدم إنا بما لنا من القدرة والنعمة والرحمة قد أنزلنا عليكم من علو سمائنا بتدبيرنا لأموركم من فوق عرشنا ، لباسا يواري سوآتكم وهو أدنى اللباس وأقله الذي يعد فاقده ذليلا مهينا - وريشا تتزينون به في مساجدكم ومجالسكم ومجامعكم ، وهو أعلاه وأكمله ، وبينهما لباس الحاجة وهو ما يقي الحر والبرد . والامتنان به يؤخذ من الامتنان بما فوقه بطريق المفهوم من الأسلوب ، أو هو داخل فيه بطريق المنطوق على ما اخترنا آنفا .
والمراد بإنزال ما ذكر : أن
الله تعالى خلق لبني آدم مادته من القطن والصوف والوبر وريش الطير والحرير وغيرها ، وعلمهم بما خلق لهم من الغرائز والقوى والأعضاء وسائل صنع اللباس منها كالزراعة والغزل والنسج والخياطة .
وإن مننه تعالى بهذه الصناعات على أهل هذا العصر أضعاف مننه على المتقدمين من شعوب بني
آدم فيجب أن يكون شكرهم له أعظم ، فقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أن عاهل ألمانية الأخير ( قيصرها ) دخل مرة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من
[ ص: 320 ] الإتقان فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض أكباش الغنم - ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه وأراد الخروج قدموا له معطفا ليلبسه تذكارا لهذه الزيارة ، وأخبروه أنه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله - فهم قد نظفوه في الآلات المنظفة فغزلوه بآلات الغزل فنسجوه بآلات النسج ففصلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور .
وامتنانه تعالى على بني
آدم بلباس الزينة يدل على استحبابها ، ولا يعارضه قوله تعالى في أوائل سورة الكهف : (
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) ( 18 : 7 ) وإن فسر
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري إحسان العمل بترك الدنيا ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004وسفيان الثوري بالزهد فيها . ذلك بأن دين الإسلام هو دين الفطرة فليس فيه ما يخالف مقتضاها ويناقض غرائزها ، بل هو مهذب ومكمل لها . وحب الزينة من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله في الخليقة وأنواع نعمه على عباده كما سنفصله في تفسير : (
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ) ( 7 : 32 ) في هذا السياق ، وتحقيق معنى كونها ابتلاء أن الله تعالى يختبر بها طالبها ما يقصد منها ؟ وواجدها أيشكر المنعم عليه بها إذا استعملها ، ويقف عند الحد المشروع فيها ، وماذا يقصد وينوي بترك ما يتركه منها . وفاقدها أيصبر على فقدها أم يكون ساخطا على ربه وحاسدا لأهلها ؟
وأما
قوله تعالى : ( ولباس التقوى ذلك خير ) فجمهور مفسري السلف على أنه اللباس المعنوي المجازي . فعن
ابن زيد أنه عين التقوى - أي اللباس الذي هو التقوى - وذكر من معناه ما يناسب المقام فقال : يتقي الله فيواري عورته - وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15948زيد بن علي تفسيره بالإسلام .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه الإيمان والعمل الصالح . قال : الإيمان والعمل خير من الريش واللباس وعن
nindex.php?page=showalam&ids=17115معبد الجهني أنه الحياء . وفي رواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه السمت الحسن في الوجه . ومراده ما يدل على ما عليه النفس من طيب السريرة ، وبذلك يكون بمعنى ما سبقه . ورووا من الحديث المرفوع ما يؤيده ، فقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري قال :
رأيت عثمان على المنبر قال : أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " والذي نفس محمد بيده ما عمل أحد قط عملا سرا إلا ألبسه الله رداءه علانية إن خيرا فخير وإن شرا فشر " ثم تلا هذه الآية . وفي أنه قال ورياشا ولم يقل وريشا ، وفسره
عكرمة وعطاء بما يلبس المتقون يوم القيامة ، قالا : هو خير مما يلبس أهل الدنيا ، ومعناه : أن اللباس الذي يكون في الآخرة جزاء على التقوى ، ذلك خير من لباس أهل الدنيا . هذه أقوالهم ملخصة من الدر المنثور ، وجعله بعضهم من اللباس الحسي الحقيقي ، ففي بعض كتب التفسير عن
nindex.php?page=showalam&ids=15948زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام أنه لباس الحرب : الدرع والمغفر والآلات التي يتقى
[ ص: 321 ] بها العدو . واختاره
أبو مسلم الأصفهاني . وهو مأخوذ من قوله تعالى في سورة النحل : (
وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) ( 16 : 81 ) وقوله تعالى في
داود من سورة الأنبياء عليهم السلام :
( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ) ( 21 : 80 ) ولا مانع عندنا من استعمال التقوى هنا فيما يعم هذا وذاك . أي تقوى الله بالإيمان والعمل وتقوى فتك العدو بلبس الدرع والمغفر ونحوهما ، على ما قررناه من قبل في مثل هذه المعاني التي لا تتعارض مدلولاتها في الاشتراك وفي الحقيقة والمجاز ، والأمر أوسع فيما يسمونه عموم المجاز . وأضعف الأقوال في لباس التقوى أنه لباس النسك والتواضع كدروع الصوف ومرقعاته التي ابتدعها بعض العباد والمتصوفة ، وإنما هي شر لا خير لأنها لباس شهوة وشهرة مذمومة . وكذا القول بأنه الحسن من الثياب فإن هذا هو الريش .
(
ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) أي ذلك الذي ذكر من نعم الله بإنزال أنواع الملابس الصورية والمعنوية من آيات الله تعالى ودلائل إحسانه إلى بني
آدم وكثرة نعمه عليهم التي من شأنها أن تعدهم وتؤهلهم لتذكر فضله ومننه والقيام بما يجب عليهم من شكرها ، واتقاء فتنة الشيطان لهم بإبداء العورات تارة وبالإسراف في الزينة تارة أخرى ، وسيأتي ما ذكر مفسرو السلف في هذا السياق من طواف المشركين بالبيت الحرام عراة وما لهم من الشبهة في ذلك .
ومن مباحث اللفظ أن اسم الإشارة في قوله تعالى : (
ولباس التقوى ذلك خير ) استعمل مكان الضمير في الربط . وجعل جملة (
ذلك خير ) خبرا لقوله : (
ولباس التقوى ) يدل على تأكيد مضمونها بتكرار الإسناد ، وذهب بعضهم إلى جعل ( ذلك ) صفة لباس ومنهم
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج ، وجعله بعضهم بدلا أو بيانا له .