الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها

                          ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ؛ ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم - بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها - في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه . وملخصه : أن الحية كانت أحيل حيوان البرية ، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب ، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر ، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر منية للنفس ، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل ، فانفتحت أعينهما ، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر . فنادى الرب آدم ، فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان ، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته . وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " 14 فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية ، على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك 15 وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يسحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها وأنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها . وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه ، وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته ويعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه . ثم قال الرب " 22 هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر . والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر 3 فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اهـ . وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في [ ص: 317 ] القرآن شيء مشكل فيها . وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء ، ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك ، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك .

                          إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح ، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له ، وكذا الذين لم يدخلوا فيه . كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنده هذه الإسرائيليات من غير بيان ، فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعرف بالرأي . فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع . حتى روي أن ابن عباس رضي الله عنه كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه . وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله . وينقلون رواياتهم وإن خالفت . فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة ، الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم . وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم " ذلك بأنهم قد حرفوا . وزادوا ونقصوا . كما قال الله تعالى فيهم إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به ، فلا نصدق رواياتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ، ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه ، إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا ، وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم ، ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس رضي الله عنه .

                          ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير ، وقال إنه نفيس جدا . ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره ، وما لا يمكن - وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات - وقد قال فيه ما نصه : -

                          " فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب بن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل [ ص: 218 ] عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب ، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى ؛ ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين ، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد . وإن قال الإمام أحمد : ثلاثة ليس لها أصل ، التفسير والملاحم والمغازي ، وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية