وبعد أن ذكرهم بسوء حالهم من جهلهم وسفاهة أنفسهم ، بين لهم فساد ما طلبوه في نفسه عسى أن تستعد عقولهم لفهمه ، واستبانة قبحه ، فقال بأسلوب الاستئناف المفيد للتعليل والدليل
: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون التبار والتبر : الإهلاك والتدمير ، والتتبير : الهلاك . يقال : تبر الشيء من بابي تعب ونصر ، وتبره - بالتشديد : أهلكه ودمره ؛ أي : إن هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضي على ما هم فيه بالتبار بما سيظهر من التوحيد الحق في هذه الديار ، وباطل ما كانوا يعملون من الأصنام ، وعبادة غير الله ذي الجلال والإكرام ؛ أي : هالك وزائل لا بقاء له ، فإنما بقاء الباطل في ترك الحق له أو بعده عنه ، وهذا يتضمن البشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض ، وكذلك كان .
قال
البغوي في تفسيره : إن طلب بني إسرائيل للآلهة لم يكن عن شك منهم بوحدانية
[ ص: 98 ] الله تعالى ، وإنما كان غرضهم إلها يعظمونه ، ويتقربون بتعظيمه إلى الله تعالى ، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة ، وكان ذلك جهلهم كما آذنت به الآيات .
وقال
الرازي : اعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل
لموسى :
اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وخالقا مدبرا ؛ لأن الذي يحصل بجعل
موسى وتدبيره لا يمكن أن يكون خالقا للعالم ومدبرا له ، ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل ، والأقرب أنهم طلبوا من
موسى أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى ، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا :
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( 39 : 3 ) إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول : لم كان هذا القول كفرا ؟ فنقول : أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن
عبادة غير الله تعالى كفر ، سواء اعتقدوا في ذلك كونه إلها للعالم أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى ؛ لأن العادة نهاية التعظيم ، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام .
ثم قال بعد أن جزم بأن هذا القول صدر عن بعضهم لا كلهم ، وأنه كان فيهم من يترفع عنه ما نصه : ثم إنه تعالى حكى عن
موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال :
إنكم قوم تجهلون وتقرير هذا الجهل ما ذكر من أن العبادة هي غاية التعظيم ، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام ، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها ، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى ، فوجب ألا تليق العبادة إلا به ( فإن قالوا ) إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى فما الوجه في قبح هذه العبادة ؟ ( قلنا ) : فعلى هذا الوجه لم يتخذوها آلهة أصلا وإنما جعلوها كالقبلة ، وذلك ينافي قولهم :
اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ا هـ .
أقول : من العجب أن يقع أمام النظار في علم العقائد على طريقة الفلسفة والكلام في مثل هذا الخطأ أسئلته وأجوبته والتناقض في كلامه ، ومنشأ هذا الخطأ الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن في اللغة العربية ، واستعمالها بلوازم معناها العرفية كلفظ " الإله " فإن معناه في اللغة المعبود مطلقا لا الخالق ولا المدبر لأمر العالم كله ولا بعضه ، لم يكن أحد من العرب الذين سموا أصنامهم وغيرها من معبوداتهم آلهة ، يعتقد أن اللات أو العزى أو هبلا خلق شيئا من العالم أو يدبر أمرا من أموره ، وإنما تدبير أمور العالم يدخل في معنى لفظ الرب ، والشواهد على هذا في القرآن كثيرة ناطقة بأنهم كانوا يعتقدون ، ويقولون : إن خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما هو الله تعالى ، وإن آلهتهم ليس لها من أمر الخلق والتدبير شيء ، وإن شركهم لأجل التقرب إليه تعالى ، وابتغاء الشفاعة عنده بعبادة ما عبدوه ، ولذلك كانوا يقولون في طوافه : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ،
[ ص: 99 ] تملكه وما ملك ، ولذلك يحتج القرآن عليهم في مواضع بأن غير الخالق المدبر لا يصح أن يكون إلها يعبد مطلقا ، وهو معنى قول بعض المحققين : إنه يحتج بما يعترفون به من توحيد الربوبية ، على ما ينكرون من توحيد الإلهية ، وإذ كنا بينا هذا مرارا بالشواهد نكتفي بهذا التذكير هنا .
ثم إن عبارة طلاب الأصنام من
بني إسرائيل لم تنقل إلينا بنصها في لغتهم ، فنبحث فيها أخطأ أم صواب ، وإنما حكاها الله تعالى لنا بلغة كتابه فمعناها صحيح قطعا ، فإن الإله في هذه اللغة هو المعبود بالذات أو بالواسطة ، وإن كان مصنوعا ، وإنما جهلهم
موسى بطلب عبادة أحد مع الله لا بتسمية ما طلبوا منه صنعه إلها ، فإنه هو سمى المعبود المصنوع إلها أيضا في قوله للسامري الذي حكاه الله عنه في سورة طه
وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ( 20 : 97 ) الآية . وإنما كان عجل
السامري من صنعه ، وإن جميع من عبدوا الأصنام من قبلهم ومن بعدهم كانت أصنامهم مجعولة مصنوعة متخذة من هذه المخلوقات كالحجر والخشب والمعدن . أنسي إمام النظار وصاحب التفسير الكبير ما حكاه الله تعالى من تسمية
قوم إبراهيم لأصنامهم بالآلهة ؟ أم نسي ما حكاه الله من حجته عليهم بقوله :
قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ( 37 : 95 ، 96 ) ومن محاجته إياهم بقوله :
واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ( 26 : 69 - 74 ) وجملة القول : أن هذا القول الذي قاله
الرازي من أظهر هفواته الكثيرة بطلانا ؛ وسببه امتلاء دماغه - عفا الله عنه - بنظريات الكلام ، وجدل الاصطلاحات الحادثة ، وغفلته عن معنى الإله في أصل اللغة ، ومن آيات القرآن الكثيرة فيه : ومنها قوله :
قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين أي : قال لهم
موسى : أأطلب لكم معبودا غير الله رب العالمين وخالق السماوات والأرض وكل شيء ، والحال أنه فضلكم على العالمين ، بما جدد فيكم من التوحيد وهداية الدين ، على ملة
إبراهيم وسنة المرسلين ، فماذا تبغون من عبادة غيره معه أو من دونه ؟ ! والاستفهام في الآية للإنكار المشرب معنى التعجب ، وإنما هو إنكار ابتغاء إله غير الله المستحق وحده للعبادة ، لا إنكار تسمية المعبود المصنوع إلها ، و " أبغي " ينصب مفعولين بنفسه كقوله تعالى :
يبغونكم الفتنة ( 9 : 47 ) .
بدأ
موسى عليه السلام جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، وثنى ببيان فساد ما طلبوه ، وكونه عرضة للتبار والزوال ، وباطلا في نفسه على كل حال ، فلا الطالب على علم وعقل فيما طلب ، ولا المطلوب مما يصح أن يطلب
ضعف الطالب والمطلوب ( 22 : 73 ) فهذا ملخص معنى الآية السابقة .