وأما
قوله - تعالى - : فخذها بقوة فهو مقول قوله مقدر ؛ لأنه أمر
لموسى ، والخطاب قبله للنبي الخاتم عليهما الصلاة والسلام - والمعنى : كتبنا له في الألواح ما ذكر وقلنا له : خذها بقوة - أو وقلنا له : هذه رسالتنا أو وصايانا وأصول شريعتنا وكلياتها فخذها بقوة ؛ أي : حال
[ ص: 166 ] كونك ملتبسا بجد وعزيمة وحزم ، أو أخذا بقوة وعزم ، وذلك أن المراد بها تكوين شعب جديد بتربية جديدة شديدة مخالفة كل المخالفة لما نشأ عليه من الذل والعبودية
لفرعون وقومه ، والإنس بما كانوا عليه من الشرك والوثنية ومفاسدها ، فإذا لم يكن المتولي تربية هؤلاء القوم ، والمرشد لهم صاحب عزيمة قوية وبأس شديد وعزم ثابت ، فإنه يعجز عن سياستهم وتربيتهم ، ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم .
وأمر قومك يأخذوا بأحسنها قيل إن ( أحسن ) هنا بمعنى ذي الحسن التام الكامل ، وليس فيه معنى تفضيل شيء على آخر ، وهو ما يعبرون عنه بقولهم : اسم التفضيل على غير بابه - أي : وأمر قومك بالاستمساك والاعتصام بهذه المواعظ والأحكام المفصلة في الألواح التي هي كاملة الحسن ، وقيل : إنه على الأصل فيه من تفضيل بعض المضاف إليه على بعض ، ومنه الحقيقي والاعتباري والإضافي ،
فأصول العقائد من الإيمان بالله - تعالى - وتوحيده وتنزيهه أفضل وأشرف من الأحكام العملية ، ولكن لا يصح أن يراد هنا ، قيل : إلا إذا أريد بالأخذ الشروع والابتداء - والأوامر أفضل من النواهي ، ويصح أن تراد في مثل الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن
اتخاذ الصور والتماثيل ، وكلاهما من الوصايا التي كتبت في الألواح ، وذلك أن
الإخلاص لله تعالى في العبادة أمر وجودي يتحلى به العقل ، وتتزكى به النفس ، وترك اتخاذ الصور والتماثيل أمر سلبي محض إذا لم يكن أثرا للإخلاص في العبادة ، وسدا للذريعة فلا قيمة له ، فإنه لم ينه عنه إلا لأنه من ذرائع الشرك ، وإلا فقد يتركه المرء لعدم الداعية ، وإن كان مشركا - والفرض أفضل من النفل ، ولكن ليس في الوصايا العشر نوافل ، ويقال مثله في قولهم : والعزيمة أفضل من الرخصة ، ومثل هذا التعبير قوله - تعالى - :
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ( 39 : 55 ) والمجال فيه أوسع ، فإن
القرآن أحسن ما أنزله الله - تعالى - إلى خلقه على ألسنة رسله بإكماله تعالى الدين به ، وبغير ذلك من مزاياه ، والخطاب فيه لأمة الدعوة ؛ أي : للناس كافة ، لأنه معطوف على قوله :
وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ( 39 : 54 ) ثم إن فيما أنزله فيه العزيمة والرخصة ، وفيه من الندب ما هو أفضل من مقابله كالصدقة بالدين بدل إنظار المعسر به وهو واجب ، وكالعفو في مقابلة القصاص .
وقوله - تعالى - : سأريكم دار الفاسقين من حكاية خطابه لقوم
موسى بالتبع له ، وإذا وجه الأمر فيما قبله إليه وإليهم ، فهو داخل في مقول القول الذي خوطب به نبينا - صلى الله عليه وسلم - من قصتهم ، والجملة استئناف لبيان عاقبة الذين فسقوا عن أمر الله ، وجحدوا بآياته فلم يأخذوا بأحسنها ، كأنه يقول : إن لم تأخذوا ما آتيناكم بقوة وتتبعوا أحسنه كنتم فاسقين عن أمر ربكم ، فيحل بكم ما حل بالفاسقين من قوم
فرعون الذين أنجاكم الله منهم ونصركم عليهم .
[ ص: 167 ] وسيريكم ما حل بهم بعدكم من الغرق ، أو الفاسقين من سكان البلاد المقدسة والمباركة التي وعدكم إياها ، وسينصركم عليهم بطاعتكم له وأخذكم ميثاقه بقوة .
قال
الحافظ ابن كثير في تفسيرها : أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : وإنما قال :
سأريكم دار الفاسقين كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غدا ما يصير إليه حال من خالفني - على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره ، ثم نقل معنى ذلك عن
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن البصري ، وقيل : معناه : سأريكم دار الفاسقين - أي : من
أهل الشام - وأعطيكم إياها ، وقيل : منازل قوم
فرعون ، والأول أولى ، والله أعلم ؛ لأن هذا كان بعد انفصال
موسى وقومه عن بلاد
مصر ، وهو خطاب
لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه ، والله أعلم اهـ ، ومن مباحث رسم المصحف الإمام أن كلمة ( سأريكم ) زيد فيها واو قبل الراء لئلا تشتبه بـ " سأراكم " إذ كانوا يرسمونها بالياء غير منقوطة ، فالمراد بها ضبط الكلمة كالضمة ، والله أعلم .
والعبرة التي يجب أن يتذكرها ويتدبرها كل قارئ لهذه الآية من وجوه :
( أحدها ) أن
الكتاب الإلهي يجب أخذه بقوة وإرادة وجد وعزيمة ؛ لتنفيذ ما هدى إليه من الإصلاح ، وتكوين الأمة تكوينا جديدا صالحا ، ويتأكد ذلك في الرسول المبلغ له ، والداعي إليه والمنفذ له بقوله وعمله ، ليكون لقومه فيه أسوة حسنة ، وتلك سنة الله - تعالى - في سائر الانقلابات والتجديدات الاجتماعية والسياسية ، وإن لم يكن بهداية الدين ، والدين أحوج إلى القوة والعزيمة ؛ لأنه إصلاح للظاهر والباطن جميعا ، وقد أمر الله - تعالى -
بني إسرائيل بما أمر به رسولهم - صلى الله عليه وسلم - من أخذ الكتاب أو ميثاق الكتاب بقوة ، أمرا مقرونا بتهديدهم وتخويفهم من وقوع
جبل الطور بهم ، كما تقدم في سورة البقرة ( 2 : 63 و93 ) وسيأتي مثله في هذه السورة ( الأعراف ) وقد أخذ سلفنا القرآن بقوة فسادوا به جميع الأمم التي كان لها من القوى العددية والحربية والنظامية والمالية والصناعية ما ليس لهم ، وإنما سادوا بالعمل بهدايته كما أراد الله - تعالى - لا بالتغني بقراءته في المحافل ، ولا بالتبرك المحض بالمصحف ، كما يفعل مقلدة الخلف الصالح ، إن من يأخذ القرآن بقوة يكون القرآن حجة له فيسعد به في الدنيا والآخرة ، ومن لا يأخذه بقوة يكون حجة عليه فيشقى بالإعراض عنه ، وهجر هدايته في الدنيا والآخرة
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ( 2 : 26و27 ) .
( ثانيها ) أن سبب تخويف
بني إسرائيل عند تبليغهم الميثاق الإلهي بوقوع الجبل بهم ، وأمرهم في تلك الحال أن يأخذوه بقوة ، وهي أن أحكام التوراة التي أخذ عليهم الميثاق بأخذها بقوة شاقة حرجة ، وحكمة ما فيها من الشدة والحرج أن القوم كانوا مستضعفين مستذلين باستعباد المصريين لهم منذ أجيال كثيرة ، وكان القوم أو الأقوام الذين وعدوا بأن يغلبوهم
[ ص: 168 ] على بلادهم جبارين أولي قوة وأولي بأس شديد ، وكان من سنة الله - تعالى - في البشر أن تتربى أفرادهم وشعوبهم بالشدة والارتياض بالصبر ، والجهاد بالمال والنفس ، ولهذا أمر الله - تعالى -
موسى - عليه السلام - أن يسير
ببني إسرائيل في طريق التيه وهو الجنوبي من برية
سيناء دون الطريق الشمالي القريب من مدن
فلسطين إذ لم يكن لهم طاقة بقتال جباري
الكنعانيين وقتئذ ، فكتب الله - تعالى - عليهم التيه أربعين سنة ملك في أثنائها الذين استذلهم المصريون ، ونشأ من صغارهم ومواليدهم جيل جديد تربى في حجر الشرع الجديد ، والتيه الشديد ، كما بيناه في تفسير سورة المائدة ( ص 274 - 279 ج6 تفسير ط الهيئة ) .
( ثالثها ) أن
الإسرائيليين قد عظم ملكهم بإقامة شريعتهم بقوة ، حتى إذا غلب الغرور على العمل ، وظنوا أن الله ينصرهم ويؤيدهم لنسبهم ولقبهم وهو " شعب الله " فسقوا وظلموا ، فأنزل الله بهم البلاء ، وسلط عليهم
البابليين الأقوياء ، فثلوا عرشهم وتبروا ملكهم ، ثم ثابوا إلى رشدهم ، فرحمهم الله ، وأعاد لهم بعض ملكهم وعزهم ، ثم ظلموا وأفسدوا فسلط عليهم
النصارى فمزقوهم كل ممزق ، فظلوا عدة قرون متكلين على
المسيح الموعود ليعيد لهم ملكهم بخوارق العادات ، ثم ربتهم الشدائد ، ونورهم العلم العصري فطفقوا يستعدون لاستعادة هذا الملك بكل ما في الإمكان من الأسباب ، وفي مقدمتها المال والنظام والكيد والدهاء مع المحافظة على التقاليد الدينية في ذلك ، حتى انتهى بهم السعي إلى استخدام الدولة البريطانية بما فصلناه في بيان العبرة في قوله - تعالى - :
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ( 7 : 137 ) .
( رابعها ) أن المسلمين الذين اتبعوا سننهم وسنن
النصارى شبرا بشبر ، وذراعا بذراع في الضر دون النفع كما فصلناه في غير هذا الموضع - قد اغتروا بدينهم كما اغتروا ، واتكلوا على لقب " الإسلام " ولقب " أمة خاتم الرسل " - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم لما يثوبوا إلى رشدهم ؛ لأن الذين سلبوا ملكهم وعزهم لم يسوسوهم بشدة مريبة كافية ، بل اجتهدوا في إفساد عقائدهم وأخلاقهم ، وإيقاع الشقاق والتفريق فيما بينهم ، بل أفسدوا كذلك من لم يستولوا على ملكهم منهم ، بتوليهم التربية والتعليم لكثيرين منهم ، كانوا عونا لهم على ما يريدون من ثل عروشهم ، والسيادة عليهم بالتدريج كالعثمانيين والمصريين - كما فصلناه في مواضع أخرى - ولا يزال هؤلاء المتفرنجون المخربون يجدون في قتل هذه الأمة ، وهم يظنون أنهم يجددون ، ويفسدون عليها أمرها ، ويحسبون أنهم يصلحون
ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ( 2 : 12 ) .