[ ص: 189 ] إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " إن " نافية ، والفتنة : الاختبار والامتحان مطلقا أو بالأمور الشاقة ، والباء في " بها " للسببية ؛ أي : ما تملك الفعلة التي كانت سببا لأخذ الرجفة إياهم إلا محنتك وابتلاؤك الذي جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية ، وما يستحقون عليه من عقوبة ومثوبة ، وسنتك في جريان مشيئتك في خلقك بالعدل والحق ، والنظام الحكيم في الخلق ، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك ، ولست بظالم لهم في تقديرك ، وتهدي من تشاء ولست بمحاب لهم في توفيقك ، بل أمر مشيئتك دائر بين العدل والفضل ، ولك الخلق والأمر
أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين أي : أنت المتولي لأمورنا ، والقائم علينا بما تكتسب نفوسنا فاغفر لنا ما تترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك ، أو التقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك ، بأن تستر ذلك علينا ، وتجعله بعفوك كأنه لم يصدر عنا ، وارحمنا برحمتك الخاصة فوق ما شملت به الخلق كلهم من رحمتك العامة ، وأنت خير الغافرين حلما وكرما وجودا فلا يتعاظمك ذنب ، ولا يعارض غفرانك ما يعارض غفران سواك من عجز أو ضعف أو هوى نفس - وما ذكر في المغفرة يدل على اعتبار مثله في الرحمة لدلالته عليه - أي : وأنت خير الراحمين رحمة وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا ، فإن رحمة جميع الراحمين من خلقك ، نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك . حذف ذكر الرحمة استغناء عنه بذكر المغفرة ، فإن ترتيب التذييل في الثناء عليه تعالى على طلب مغفرته ورحمته معا يقتضي أن يكون هذا الثناء بهما معا ، فاكتفى بذكر الأولى لدلالتها على الثانية قطعا ، فهو من الإيجار المسمى في علم البديع الاكتفاء ، وقد غفل عن هذا من قال من المفسرين : أنه اكتفى بذكر المغفرة ؛ لأنها الأهم ولم يكتف بذكر الرحمة ؛ لأنها أعم ، ولأنها قد تستلزم المغفرة دون العكس ، فإن معنى المغفرة سلبي ؛ وهو
عدم المؤاخذة على الذنب ، والرحمة فوق ذلك فهي إحسان إلى المذنب مقدمة على التحلية ، فلا يليق خلع الحلل النفسية ، إلا على الأبدان النظيفة ، وقد قال
موسى - عليه السلام - في دعائه لنفسه ولأخيه :
رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك ( 7 : 151 ) الآية ، وقال
نوح عن توبته من سؤاله النجاة لولده الكافر :
وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ( 11 : 47 ) وعلمنا تعالى من دعائه في خاتمة سورة البقرة :
واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ( 2 : 286 ) وقلما ذكر اسم ( الغفور ) في كتابه العزيز إلا مقرونا باسمه ( الرحيم ) ومن غير الأكثر قرنه بالشكور وبالحليم والودود ويقرب معناهن من معنى الرحيم ، وورد قرنه بالعفو وبالعزيز لاقتضاء المقام ذلك .
ودعاء موسى - عليه السلام - هنا لنفسه مع قومه بضمير الجمع قد اقتضاه مقام المناجاة
[ ص: 190 ] والمعرفة الكاملة ، ومن كان أعرف بالله وأكمل استحضارا لعظمته ، كان أشد شعورا بالحاجة إلى مغفرته ورحمته ، وإن كان ما يستغفر منه تقصيرا صغيرا بالنسبة إلى ذنوب الغافلين والجاهلين أو من باب " حسنات الأبرار سيئات المقربين " فإن كان هذا الدعاء عقب طلب الرؤية ، فوجه طلبه للمغفرة والرحمة لنفسه أظهر ؛ لأن طلبه ذاك كان ذنبا له ، صرح بالتوبة منه ، وإن كان عقب طلب السبعين رؤية لله جهرة فالأمر أظهر ؛ لأن الذنب مشترك ، وإن كان على أثر حادثة عبادة العجل ، فقد علم ما كان من شدته فيها على أخيه
هارون - عليهما السلام - ، وأنه طلب لكل من نفسه وأخيه المغفرة على الانفراد والرحمة بالاشتراك ، وإن كان عقب تمرد
بني إسرائيل الذي عاقبهم الله - تعالى - عليه بإهلاك بعضهم وتهديدهم بالاستئصال ، فإدخال نفسه معهم من باب الاستعطاف ، إذ لم ينقل عنه فيه شيء مما يعد من ذنوب الأنبياء عليهم السلام .