(
ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون )
ذكر (
الجلال ) أن الآية الأولى نزلت فيمن حرم السوائب ونحوها ، ولكنه لم يذكر ذلك في أسباب النزول ، وقد كان هذا في طوائف من العرب
كمدلج وبني صعصعة . وقال الأستاذ الإمام : لو صح أن الآية نزلت في ذلك لما كان مقتضيا فصل الآية مما قبلها وجعلها كلاما مستأنفا ; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، على أن الظاهر من السياق أن الكلام متصل بما قبله أتم الاتصال . فإن الآيات الأولى بينت حال متخذي الأنداد وما سيلاقون من عذاب الله تعالى ، وقد قلنا في تفسيرها : إن الأنداد قسمان : قسم يتخذ شارعا يؤخذ برأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا عن الله ورسوله ، بل يجعل قوله وفعله حجة بذاته لا يسأل من أين أخذه وهل هو فيه على هدى من ربه أم لا ، وقسم يعتمد عليه ويدعى في دفع المضار وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب ، حتى إنهم ليعتمدون على إغاثة هؤلاء الأنداد للناس بعد موتهم وخروجهم من عالم الأسباب ، ثم بينت أن الناس يتبع بعضهم بعضا في ذلك ، وأن سيتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا عند رؤية العذاب وتقطع الأسباب بينهم ، وقلنا في تفسيرها : إن الأسباب هي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض . وفي هذه الآيات يبين تعالى أن تلك الأسباب محرمة ; لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان ونهى
[ ص: 71 ] عنها ، وبين سبب جمودهم على الباطل والضلال وهو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى . فالكلام متمم لما قبله قطعا .
قال تعالى : (
ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) الحلال : هو غير الحرام الذي نص عليه في قوله تعالى : (
قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ) ( 6 : 145 ) فما عدا هذا فكله مباح بشرط أن يكون طيبا ; أي غير خبيث . وفسر (
الجلال ) الطيب بالحلال - على أنه تأكيد - أو بالمستلذ ، والأول لا محل له والتأسيس مقدم على التأكيد ، والثاني لا يظهر تقييد الإباحة العامة لما في الأرض به ، ورجح الأستاذ الإمام أن الطيب ما لا يتعلق به حق الغير وهو الظاهر ; لأن المراد بحصر المحرم فيما ذكر المحرم لذاته الذي لا يحل إلا للمضطر ، وبقي المحرم لعارض فتعين بيانه وهو ما يتعلق به حق الغير ويؤخذ بغير وجه صحيح ، كما يكون في أكل الرؤساء من المرءوسين بلا مقابل إلا أنهم رؤساؤهم المسيطرون عليهم ، وكذلك أكل المرءوسين بجاه الرؤساء ، فإن كلا منهما يمد الآخر ليستمد منه في غير الوجوه المشروعة التي يتساوى فيها جميع الناس ، ويخرج بذلك الربا والرشوة والسحت والغصب والغش والسرقة فكل ذلك خبيث ، وكذا ما عرض له الخبث بتغيره كالطعام المنتن ، وبهذا التفسير يتحرر ما أباحه الدين وتلتئم الآية مع ما قبلها ، وأتبع الأمر النهي فقال : (
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) قرأ الأئمة ( خطوات ) بضمتين : جمع خطوة بالضم وهي ما بين القدمين - وبفتحتين جمع خطوة وهي المرة من خطا يخطو في مشيه ، والمعنى لا تتبعوا سيرته في الإغواء ، ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء ، وهو ما يبينه في الآية التالية ، وعلل النهي بكونه عدوا للناس بين العداوة . والعلم بعداوته لنا لا يتوقف على معرفة ذاته ، وإنما يعرف الشيطان بهذا الأثر الذي ينسب إليه وهو وحي الشر وخواطر الباطل والسوء في النفس ، فهو منشأ هذا الوحي والخواطر الرديئة ، قال تعالى : (
شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) ( 6 : 112 ) ولا أبين وأظهر من عداوة داعية الشر والضلال ، فعلى الإنسان أن يلتفت إلى خواطره ويضع لها ميزانا ، فإذا مالت نفسه إلى بذل المال لمصلحة عامة ، أو عرض له سبب معاونة عامل على خير ، أو صدقة على بائس فقير ، فعارضه خاطر التوفير والاقتصاد ، فليعلم أنه من وحي الشيطان ، ولا ينخدع لما يسوله له من إرجاء هذا العطاء لأجل وضعه في موضع أنفع ، أو بذله لفقير أحوج ، وإذا هم بدفاع عن حق أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فخطر له ما يثبط عزمه أو يمسك لسانه ، فليعلم أنه من وسواس الشيطان . وأظهر وحي الشياطين ما يجرئ على التحريم والتحليل لأجل المنافع التي تلبس على المتجرئ عليها بالمصلحة وسياسة الناس ،
[ ص: 72 ] كأنه قال : لا تتبعوا وحي الباطل والشر وخواطرهما تلم بكم وتطوف بنفوسكم ، فإنهما من إغواء الشيطان عدوكم ، ثم بين ذلك بما يفيد إثبات العداوة من تعليل النهي فقال :