من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون هاتان الآيتان مقررتان لمضمون المثل في الآيات قبلها ، وهو أن أسباب الهدى والضلال إنما ينتهي كل نوع منها بالمرء المستعد إلى كل من الغايتين ، والعرضة لسلوك كل من النجدين ، بتقدير الله والسير على سننه في استعمال مواهبه وهداياته الفطرية ، من العقل والحواس في أحد السبيلين
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ( 76 : 3 ) وقد أجمل تعالى هذا المعنى في الآية الأولى وفصله في الثانية بإيجاز بديع فقال :
من يهد الله فهو المهتدي أي : من يوفقه الله سبحانه وتعالى لسلوك سبيل الهدى باستعمال عقله وحواسه ، بمقتضى سنة الفطرة وإرشاد الدين ، فهو المهتدي الشاكر لنعمه تعالى ، الفائز بسعادة الدنيا والآخرة
ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون أي ومن يخذله بالحرمان من هذا التوفيق ، فيتبع هواه وشيطانه في ترك استعمال عقله وحواسه في فقه آياته تعالى وشكر نعمه ، فهو الضال الكفور الخاسر لسعادة الدنيا والآخرة ; لأنه يخسر بذلك مواهب نفسه التي كان بها إنسانا مستعدا للسعادة فتفوته هذه السعادة فوتا إضافيا في الدنيا وحقيقيا في الآخرة .
وفي الآية من محاسن البديع الاحتباك ، وهو حذف الفوز والفلاح من الجملة الأولى للعلم به من إثبات نظيره ومقابله - وهو الخسران - في الجملة الثانية ، وحذف الضال من الجملة الثانية لإثبات مقابله وهو المهتدي في الجملة الأولى ، وإفراد المهتدي في الأولى
[ ص: 350 ] مراعاة للفظ ( من ) ، وجمع الخاسرين في الثانية مراعاة لمعناها فإنها من صيغ العموم ، وحكمة إفراد الأول ، الإشارة به إلى أن الحق المراد من الهداية الإلهية نوع واحد وهو الإيمان المثمر للعمل الصالح ، وحكمة جمع الثاني ، الإشارة إلى تعدد أنواع الضلال كما تقدم بيانه مفصلا في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام :
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ( 6 : 153 ) وتفسير قوله تعالى من سورة البقرة :
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ( 2 : 257 ) الآية .