قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون هذه الآية من أعظم أصول الدين وقواعد عقائده ببيانها لحقيقة الرسالة والفصل بينها وبين الربوبية والألوهية ، وهدمها لقواعد الشرك ومباني الوثنية من أساسها ، ومناسبتها لما قبلها : أن الله تعالى أمر خاتم رسله فيما قبلها أن يجيب السائلين له عن الساعة بأن علمها عند الله تعالى وحده ، وأمرها بيده وحده - وأمره في هذه أن يبين للناس أن كل الأمور بيد الله تعالى وحده ، وأن علم الغيب كله عنده ، وأن ينفي كلا منهما عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أن الذين كانوا
[ ص: 424 ] يسألونه - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة من المسلمين كانوا يظنون أن منصب الرسالة قد يقتضي علم الساعة وغيرها من علم الغيب ، وربما كان يظن بعض حديثي العهد بالإسلام أن الرسول قد يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه ، وعمن يحب أو يشاء ، أو منع النفع وإحداث الضر بمن يكره أو بمن يشاء . فأمره الله تعالى أن يبين للناس أن منصب الرسالة لا يقتضي ذلك ، وإنما وظيفة الرسول التعليم والإرشاد ، لا الخلق والإيجاد ، وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما يتعلق بذلك مما علمه الله بوحيه ، وأنه فيما عدا تبليغ الوحي عن الله تعالى بشر كسائر الناس :
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ( 18 : 110 ) قال عز وجل :
قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا أي: قل أيها الرسول للناس فيما تبلغه من أمر دينهم : إنني لا أملك لنفسي - أي ولا لغيري بالأولى - جلب نفع ما في وقت ما ، ولا دفع ضرر ما في وقت ما ، فوقوع كلمتي النفع والضر نكرتين منفيتين يفيد العموم حسب القاعدة المعروفة ، ونفي عموم الفعل يقتضي نفي عموم الأوقات له . ولكن هذا العموم مشكل بما هو معلوم بالضرورة من تمكن كل إنسان سليم الأعضاء من نفع نفسه وغيره في بعض الأمور الكسبية ، ودفع بعض الضرر عنها ; ولذلك حرمت الشريعة الضرر والضرار .
ويجاب عن هذا الإشكال من وجهين : أحدهما : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا مستقلا بقدرته ، وإنما يملك ما يملكه من ذلك بتمليك الرب الخالق جلت قدرته وهو المراد بالاستثناء ، أي لا أملك منهما (
إلا ما شاء الله ) من نفع أقدرني على جلبه ، وضر أقدرني على منعه ، وسخر لي أسبابهما ، أو إلا وقت مشيئته سبحانه أن يمكنني من ذلك ، فالمعنى المراد على هذا هو بيان عجز المخلوق الذاتي ، وكون كل شيء أوتيه فهو بمشيئة الله تعالى ، لا يستقل العبد بشيء منه استقلالا مطلقا ، ولا هو يملكه بذاته لذاته ، بل بمشيئة الله تعالى ، فالاستثناء على هذا متصل بما قبله مخصص لعمومه مقيد لإطلاقه .
الثاني : أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملك بمقتضى منصب الرسالة نفعا ولا ضرا لنفسه بمنطوق الجملة ، ولا لغيره بمفهومها الأولى ، مما يعجز عنه بمقتضى بشريته ، وما أقدره الله تعالى عليه بمقتضى سنته في عالم الأسباب والمسببات ، كما أنه لا يملك شيئا من علم الغيب الذي هو شأن الخالق دون المخلوق كما يأتي بيانه في تفسير الجملة التالية ، والاستثناء على هذا منفصل عما قبله مؤكد لعمومه ، أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كان ، فهو كقوله تعالى :
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ( 87 : 6 ، 7 ) وقوله حكاية عن خليله
إبراهيم عليه السلام :
ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا ( 6 : 80 ) وقوله في خطاب كليمه
[ ص: 425 ] موسى عليه السلام :
إني لا يخاف لدي المرسلون [ 027 011 ]
إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ( 27 : 10 ، 11 ) الآية .
وهذا الوجه هو المختار عندنا ; لأن الناس قد فتنوا منذ
قوم نوح بمن اصطفاهم الله ووفقهم لطاعته وولايته من الأنبياء ، ومن دون الأنبياء من الصالحين ، فجعلوهم شركاء لله تعالى فيما يرجوه عباده من نفع يسوقه إليهم ، وما يخشونه من شر يمسهم ، فيدعونه ليكشفه عنهم ، وصاروا يدعونهم كما يدعونه لذلك إما استقلالا ، وإما إشراكا ; إذ منهم من يظن أنه تعالى قد أعطاهم القدرة على التصرف في خلقه بما هو فوق الأسباب التي منحها الله تعالى لسائر الناس ، فصاروا يستقلون بالنفع والضر منحا ومنعا ، وإيجابا وسلبا ، ومنهم من يعتقد أن التصرف الغيبي الأعلى الذي هو فوق الأسباب الكسبية الممنوحة للبشر خاص بربهم لا يقدر عليه غيره ، ولكنهم يظنون مع هذا أن هؤلاء الأنبياء والأولياء عند الله تعالى كوزراء الملوك وحجابهم وبطانتهم ، وسطاء بينهم وبين من لم يصل إلى رتبتهم ، فالملك المستبد بسلطانه يعطي هذا ، ويعفو عن ذنب هذا بوساطة هؤلاء الوزراء والحجاب المقربين عنده ، وكذلك رب العالمين يعطي ويمنع ويغفر ويرحم وينتقم بوساطة أنبيائه وأوليائه بزعمهم ، فهم شفعاء للناس عنده تعالى يقربونهم إليه زلفى كما حكاه التنزيل عن المشركين ، وبيناه في مواضع من هذا التفسير .
وفي مثل هذا التشبيه الوثني ، وتمثيل تصرف الرب العظيم الغني عن عباده بتصرف الملوك المستبدين الجاهلين الذين يحتاجون إلى وزرائهم وبطانتهم في حمله على ما ينبغي له فيهم - قال الله تعالى :
فلا تضربوا لله الأمثال ( 16 : 74 ) وبين في هذه الآية وأمثالها أن
رسل الله تعالى وهم صفوة خلقه لا يشاركون الله تعالى في صفة من صفاته ، ولا تأثير لأحد منهم في علمه ، ولا في مشيئته ; لأنها كاملة أزلية لا يطرأ عليها تغير ، وأن الرسالة التي اختصهم الله تعالى بها لا يدخل في معناها إقدارهم على النفع والضر بسلطان فوق الأسباب المسخرة لسائر البشر ، ولا منحهم علم الغيب ، وإنما تبليغ وحي الله تعالى وبيانه للناس بالقول والفعل والحكم .
ودليلنا على اختيار هذا الوجه : أن مدار العبودية على توجه العباد إلى المعبود فيما يرجون من نفع ويخافون من ضر ، فاستعمل اللفظان في التنزيل في بيان أن
الرب المستحق للعبادة هو من يملك الضر والنفع ، غير خاضع ولا مقيد بالأسباب العادية ، كقوله تعالى :
قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ( 5 : 76 ) وقوله في عجل
بني إسرائيل :
أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ( 20 : 89 ) وقوله :
قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ( 48 : 11 ) وقوله :
قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا [ ص: 426 ] ( 13 : 16 ) وقوله :
واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ( 25 : 3 ) الآية .
فلما كان ملك الضر والنفع بهذا الإطلاق خاصا برب العباد وخالقهم ، وكان طلب النفع أو كشف الضر عبادة لا يجوز أن يوجه إلى غيره من عباده مهما يكن فضله تعالى عظيما عليهم - أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يصرح بالبلاغ عنه أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، وقد تكرر هذا الأمر له في القرآن مبالغة في تقريره وتوكيده ، فقال تعالى في سورة يونس :
قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ( 10 : 49 ) الآية ، وقال في سورة الجن :
قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ( 72 : 21 ) وهذه الآية أبلغ وأشمل مما في معناها بما فيها من إيجاز واحتباك بحذف ما يقابل الضر والرشد المذكورين ، وهما ضداهما بدلالتهما عليهما ، والتقدير : لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، ولا رشدا ولا غواية ، وهذه الآيات بمعنى ما هنا تؤيد اختيارنا .