الباب الأول
( في صفات الله تعالى وشئونه في خلقه وحقوقه وحكمه في عباده . وفيه ثلاثة فصول )
الفصل الأول في الأسماء والصفات الإلهية
( 1 ) الأسماء والصفات :
في هذه السورة من
أسماء الله الحسنى وصفاته : العلي العزيز الحكيم ، والعليم الحكيم ، والسميع العليم ، والغفور الرحيم ، والمولى والنصير ، والبصير ، والقدير ، والعليم بذات الصدور ، وختمت السورة بقوله تعالى :
إن الله بكل شيء عليم وكل اسم من هذه الأسماء وغيرها يذكر في القرآن مفردا أو مقترنا بغيره في المكان المناسب للموضوع الذي ورد فيه ويفسر في موضعه ، ومفسروا المذاهب الكلامية وغيرها يتأولون بعضها كما تقدم في تفسير سورة الفاتحة من تأويلهم لصفة الرحمة ، وبينا فيه وفي مذهب السلف في إمرار هذه الصفات ، كما وردت من غير تكلف تأويل لها يخرجها عن الظاهر المتبادر من السياق مع الجزم بتنزيهه تعالى فيها عن شبه أحد من خلقه ، وما للخلف من التأويلات التي حملهم عليها محاولة التقصي من التشبيه ، وتحقيق الحق في كل مقام بما يناسبه مع الجمع بين إثبات النصوص والتنزيه . وقد تذكر بعض التأويلات للضرورة .
( 2 )
المعية الإلهية والعندية :
مما تكرر ذكره في هذه السورة إثبات إضافة المعية إليه تعالى ، أي كونه مع من يشاء من عباده - وهي مما ورد تأويله عن بعض علماء السلف واتفق عليه متكلموا الخلف ، وقد بينا هنا كما بينا من قبل تحقيق قاعدة السلف فيها وتراها في آيات من هذه السورة - أولها -
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ( 8 : 12 ) أي : إني أعينكم على تنفيذ
[ ص: 107 ] ما آمركم به من تثبيتهم على قلوبهم ، حتى لا يفروا من أعدائهم على كونهم يفوقونهم عددا وعددا ومددا - إعانة حاضر معكم لا يخفى عليه ولا يعجزه شيء من إعانتكم ، والوعد بالإعانة وحده لا يفيد هذا المعنى كله ، ففي المعية معنى زائد على أصل الإعانة نعقل منه ما ذكر ولا نعقل كنهه وصفته .
وفي معناها قوله تعالى في بيان أن كثرة العدد وحدها لا تقتضي النصر في الحرب بل هنالك قوة معنوية إلهية قد ينصر بها الفئة القليلة على الكثيرة :
ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ( 19 ) - وقوله عز وجل بعد الأمر بأسباب النصر المعنوية كالثبات في القتال وذكره وطاعته وطاعة رسوله والنهي عن التنازع :
واصبروا إن الله مع الصابرين ( 46 ) ومثله قوله بعد جعل المؤمنين حقيقين بالنصر على عشرة أضعافهم من المشركين في حال القوة والعزيمة ، وعلى مثليهم في حال الضعف والرخصة بشروطه :
والله مع الصابرين ( 66 ) وهذه المعية يعبر عنها في هذا المقام بمعية النصر . وقد بينا ما تسمى به في مقامات أخرى من الصبر في غير القتال يطلب كل منها في محله .
ويناسب المعية ما ورد في العندية كقوله تعالى :
لهم درجات عند ربهم ( 4 ) وهي : إما عندية مكان . كهذه الآية والمراد بالمكان هنا الجنة كقوله تعالى حكاية عن امرأة فرعون :
إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ( 66 : 11 ) وإضافته إلى الرب تعالى للتشريف والتكريم كما قال المفسرون ، وإما عندية تدبير وتصرف . كقوله تعالى في هذه السورة :
وما النصر إلا من عند الله ( 10 ) وإما عندية حكم . كقوله تعالى في أهل الإفك من سورة النور :
فأولئك عند الله هم الكاذبون ( 24 : 13 ) أي في حكم شرعه .
( 3 )
ولايته تعالى للمؤمنين :
وهي بمعنى معيته لهم . قال :
وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ( 40 ) فتسمى هنا ولاية النصرة وهي أعم . وتقدم تفصيل القول في الولاية العامة والخاصة في تفسير
الله ولي الذين آمنوا ( 1 : 257 ) فتراجع في ( ص34 ج 3 ط الهيئة ) .
الفصل الثاني
في أفعاله وتصرفه في عباده وتدبيره لأمور البشر وفي تشريعه لهم
( 1 )
تصرفه في عباده :
يدخل في هذا الباب أفعاله التي لا كسب للناس فيها ، وتصرفه فيهم بالأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج وإرادته في تسخيرهم في أعمالهم . قال عز وجل :
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ( 5 ) ،
ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل [ ص: 108 ] ( 7 ، 8 ) إلى آخره
وما النصر إلا من عند الله ( 10 ) ،
وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ( 11 )
سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ( 12 ) ،
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى - إلى قوله :
وأن الله مع المؤمنين ( 17 - 19 ) ،
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ( 23 ) ،
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ( 24 ) ،
فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ( 26 ) ،
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ( 29 ) ،
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( 30 ) ،
ليميز الله الخبيث من الطيب ( 37 ) - الآية -
إذ يريكهم الله في منامك قليلا ( 43 ) - الآية -
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ( 44 ) - الآية :
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( 53 ) ،
هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم ( 62 ، 63 ) إلخ .
وقد بينا في تفسير كل آية من هذه الآيات ما للعبد مما أسند إليه ، وما للرب مما أسند إليه عز وجل ، وما في بعضها من شبهة يحتج بها على عقيدة الجبر ووجه إبطالها بما لا يجد القارئ له نظيرا في شيء من كتب التفسير وشروح الأحاديث ، ولا في كتب الكلام فيما رأيناه منها وما يقاس عليه من أمثالها .
( 2 )
التشريع الديني :
هو حقه ومقتضى ربوبيته عز وجل ، ففي الآية الأولى من هذه السورة :
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ومعناه أن الحكم فيها هو حق الله تعالى ، وأما الذي لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو تنفيذ الحكم وقسمة الغنائم ، ودليله أن الله تعالى بين حكمها في قوله :
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ( 41 ) إلخ . وتفسيره في أول الجزء العاشر ، وما ورد من مؤاخذة المؤمنين على أخذ الفدية من أسرى بدر قبل إذن الله تعالى لهم بذلك في قوله تعالى :
ما كان لنبي أن يكون له أسرى ( 67 ) إلخ . مع أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وافقهم على ذلك ، وقد ثبت في الصحيحين أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920203إنما أنا قاسم وخازن والله يعطي وفي أثناء حديث للبخاري
nindex.php?page=hadith&LINKID=920204والله المعطي وأنا القاسم وقسمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للغنائم مفوضة إلى اجتهاده فيما لا نص فيه من كتاب الله تعالى مع فرض العدل عليه . فالتشريع الديني الذي لا يتغير فيها هو حق الخمس وقد بينا تفصيله في أول الجزء العاشر . وما عدا ذلك من أموال الحرب فهو اجتهادي يقسمه الإمام الأعظم بمشاورة أهل الحل والعقد ، على وفق المصلحة وأساس العدل ، كما فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ في تدوين الدواوين .
[ ص: 109 ] الفصل الثالث
( في
تعليل أفعاله وأحكامه تعالى بمصالح الخلق )
ورد في هذه السورة تعليل وعده تعالى للمؤمنين إحدى الطائفتين من المشركين بقوله :
ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ( 7 ، 8 ) . وتعليله وعده للمؤمنين بإمداده إياهم بالملائكة بقوله :
وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ( 10 ) .
وتعليله تغشيتهم النعاس ، وإنزال المطر عليهم بقوله :
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ( 11 ) إلخ . وتعليله تمكينهم من قتل المشركين
ببدر وإيصاله تعالى ما رمى به الرسول الكافرين إلى أعينهم بقوله :
وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إلى قوله :
موهن كيد الكافرين ( 17 و18 ) .
وتعليله ما كتبه من النصر لأتباع الرسل من المؤمنين الصادقين والخذلان لأعدائهم الكافرين بقوله :
ليميز الله الخبيث من الطيب ( 37 ) الآية .
وتعليله لما قدره وأنفذه من لقائهم المشركين على غير موعد بقوله :
ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ( 42 ) ثم تعليله لإراءته تعالى رسوله المشركين في منامه قليلا بقوله :
ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ( 43 ) .
ثم تعليله لإراءته تعالى المؤمنين عند التقائهم بالمشركين أنهم قليل ، وتقليله إياهم في أعين المشركين بقوله :
ليقضي الله أمرا كان مفعولا ( 44 ) .
ثم تعليله لمؤاخذة
قريش على كفرها لنعمه ببيان سنته العامة في أمثالهم وهي قوله :
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( 53 ) وكذا تعليله لما أوجبه من ولاية المؤمنين بعضهم لبعض في النصرة في مقابلة ولاية الكافرين بعضهم لبعض بقوله :
إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( 73 ) .