(
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) هذا عطف على قوله تعالى : (
خذ من أموالهم صدقة ) ، إلخ ، أي : وقل لهم أيها الرسول : اعملوا لدنياكم وآخرتكم ولأنفسكم وأمتكم ( حذف متعلق العمل يدل على العموم ، وقدره بعضهم : اعملوا ما شئتم ) فإنما العبرة بالعمل لا بالاعتذار عن التقصير ، ولا بدعوى الجد والتشمير ،
وخير الدنيا والآخرة منوطان بالعمل ، وهو لا يخفى على الله ولا على الناس أيضا فسيرى الله عملكم خيرا كان أو شرا ، فيجب عليكم أن تراقبوه تعالى في أعمالكم ، وتتذكروا أنه ناظر إليكم ، عليم بمقاصدكم ونياتكم لا تخفى عليه منكم خافية ،
وجدير بمن يؤمن برؤية الله لعمله أن يتقنه ، وأن يخلص له النية فيه ، فيقف فيه عند حدود شرعه ، ويتحرى به تزكية نفسه والخير لخلقه ، ولا يكتفي فيه
[ ص: 28 ] بترك معاصيه ، واجتناب مناهيه ، راود رجل امرأة عن نفسها في فلاة قائلا : إنه لا يرانا هنا إلا الكواكب ، قالت : فأين مكوكبها ؟ فخجل وانصرف . وسيراه رسوله والمؤمنون ويزنونه بميزان الإيمان المميز بين الإخلاص والنفاق ، وهم شهداء الله على الناس ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه
أحمد وأبو يعلى nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان والبيهقي : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920410لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان ) ) وقال
زهير :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فإذا كانت الخلائق النفسية ، والأعمال السرية ، لا تخفى على الناس مهما يكن من محاولة صاحبها لإخفائها ، فماذا يقال في الأعمال التي هي مقتضى العقائد والأخلاق وما انطبعت عليه النفس من الملكات ، ومرنت عليه من العادات ؟ نرى المؤمنين الصادقين يخفون بعض أعمال البر التي يستحب إخفاؤها كالصدقة على الفقير المتعفف سترا عليه ، ومبالغة في الإخلاص لله تعالى الذي ينافيه الرياء وحب السمعة ولكنهم لا يلبثون أن يشتهروا بها ، ونرى بعض المنافقين يخفون بعض أعمال النفاق خوفا من الناس لا من الله ، ولكنهم لا يلبثون أن يفتضحوا بها . ومن أمثال العوام : إن الذي يختفي هو الذي لا يقع .
والآية تهدينا إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان ، المقررة صفاتهم في القرآن تلي مرضاة الله ورسوله ، وأنهم لا يجتمعون على ضلالة . وفي معناه حديث أنس في الصحيحين قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920411مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( وجبت ) ) ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال : ( ( وجبت ) ) فقال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما وجبت ؟ قال : ( ( هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ، ( ( أنتم شهداء الله في الأرض ) ) وفي لفظ
مسلم تكرار ( ( وجبت ) ) ثلاث مرات في الموضعين وكذا تكرار ( ( أنتم شهداء الله في الأرض ) ) وفي معناه حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر مرفوعا : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920412إن الله لا يجمع أمتي - أو قال : أمة محمد - على ضلالة ، ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ إلى النار ) ) أخرجه
الترمذي من طريق
سليمان المديني وقال : هذا حديث غريب من هذا الوجه ،
وسليمان المديني عندي هو
سليمان بن سفيان انتهى . أقول : وهو ضعيف منكر الحديث باتفاقهم ويعزى الحديث إلى
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني بلفظ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=919148لا تجتمع أمتي على ضلالة ) ) والعلماء يستدلون به على
حجية الإجماع لصحة معناه بموافقته للآيات والصحاح من الأخبار ، وإنما يدل على إجماع الأمة ، أمة الإجابة وأهل الاستقامة ، لا على الإجماع المصطلح عليه عند الأصوليين وفي معناه قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920413ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ) ) رواه عنه
أحمد في السنة لا في المسند ومن الناس من يظن أنه حديث مرفوع ، ويستدل به الجهال حتى من المعممين أدعياء العلم على استحسان البدع الفاشية حتى في العقائد الثابتة كبدع القبور التي كان يلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعليها في مرض موته ، من بناء المساجد عليها ، والصلاة إليها ، وإيقاد السرج
[ ص: 29 ] والمصابيح عندها ، بل ما هو شر من ذلك وهو عبادتها بالطواف حولها ، ودعاء أصحابها والنذر لهم ، والاستغاثة بهم ، حتى في الشدائد وهو ما لم يكن يفعله عباد الأصنام في مثل هذه الحال . بل كانوا فيه يخلصون الدعاء لله ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
بعد هذا الإرشاد إلى ما يقتضي الإحسان في الأعمال من مراقبة الله وتحري مرضاته ومرضاة رسوله وجماعة المؤمنين والخير لعباده بها - ذكرهم تعالى بما يقتضي ذلك من جزاء الآخرة عليها ، فقال : (
وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ) بالبعث بعد الموت (
فينبئكم بما كنتم تعملون ) في الدنيا مما كان مشهودا للناس منه ، وما كان غائبا عن علمهم منه ومن نياتكم فيه ، ينبئكم به عند الحساب ، وما يترتب عليه من الجزاء بحسن الثواب ، أو سوء العذاب .