يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى أقول : بين - سبحانه وتعالى - في الآيتين السابقتين أن ترك المن والأذى شرط لحصول الأجر على الإنفاق في سبيله ، وأن العدول عن الصدقة التي يتبعها إلى قول وعمل آخر يكرم به الفقير ، أو تؤيد به
[ ص: 55 ] المصلحة العامة خير من نفس تلك الصدقة في الغاية التي شرعت لها . ثم أقبل - تعالى - على خطاب المؤمنين ونهاهم نهيا صريحا أن يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى ، وفي ذلك من المبالغة في التنفير عن هاتين الرذيلتين ما يقتضيه ولوع الناس بهما .
قال الأستاذ - رحمه الله تعالى - : واستدلت
المعتزلة بالآية على إحباط الكبائر للأعمال الصالحة حتى كأنها لم تعمل ، وأجيب عن الآية بأن المراد بها تبطلوا ثواب صدقاتكم وبغير ذلك من التكلف الذي لا يحتاج إليه ; لأن الكلام في إحباط المن والأذى للفائدة المقصودة من الصدقة وهي تخفيف بؤس المحتاجين وكشف أذى الفقر عنهم إذا كانت الصدقة على الأفراد ، وتنشيط القائمين بخدمة الأمة ومساعدتهم إذا كانت الصدقة في مصلحة عامة ، فإذا أتبعت الصدقة بالمن والأذى كان ذلك هدما لما بنته وإبطالا لما عملته ، وكل عمل لا يؤدي إلى الغاية المقصودة منه فقد حبط وبطل كأنه لم يكن ، فكيف إذا أتبع بضد الغاية ونقيضها ؟ كذلك تكون
صلاة المرائي باطلة ; لأن الغرض منها لم يحصل وهو توجه القلب إلى الله - تعالى - واستشعار سلطانه والإذعان لعظمته والشكر لإحسانه ، وقلب المرائي إنما يتوجه إلى من يرائيه ، هذا هو معنى إبطال المن والأذى للصدقة ، والذي يزعمه
المعتزلة هو أن ارتكاب أي كبيرة من الكبائر يبطل جميع الأعمال الصالحة السابقة ويوجب الخلود في النار ، فاستدلالهم بالآية على هذا إنما يدل على أنهم لم يفهموا هدى الله - تعالى - في كتابه ، ولم يعرفوا فطرة البشر التي جاء الدين لتأديبها ، وقد رأيت كلام من أيد مذهبه بهدم مذهبهم ، هكذا يتجاذب القرآن أهل المذاهب كل يجذبه إلى مذهبه الذي رضيه لنفسه ، فتراهم عندما يشاغب بعضهم بعضا يتعلقون بالكلمة المفردة إذا كانت تحتمل ما قالوا ويجعلونها حجة للمذهب ويؤولون ما عداها ولو بالتمحل ، وأهل الخلاف ليسوا من أهل القرآن فلا يعول على قولهم في بيان معانيه .
ثم شبه - تعالى - أصحاب المن والأذى بالمرائي أو إبطال عملهم للصدقة بإبطال ريائه لها فقال :
كالذي ينفق ماله رئاء الناس أي لأجل ريائهم أو مرائيا لهم ; أي لأجل أن يروه فيحمدوه لا ابتغاء مرضاة الله - تعالى - بتحري ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين ، وترقية شأن الملة بالقيام بمصالح الأمة ، فهو إنما يحاول إرضاء الناس
ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فيتقرب إليه - تعالى - بالإنفاق خشية عقابه ، ورجاء ثوابه في ذلك اليوم
فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا أي إن صفته وحاله في عدم انتفاعه بما ينفق كالحجر الأملس إذا كان عليه شيء من التراب ثم أصابه مطر غزير عظيم القطر أزال عنه ما أصابه حتى عاد أملس ليس عليه شيء من ذلك التراب ، ووجه الشبه بين المان والمؤذي بصدقته وبين المرائي بنفقته أن كلا منهما غش نفسه فألبسها ثوب زور يوهم رائيه
[ ص: 56 ] ما لا حقيقة له كمن يلبس لبوس العلماء أو الجند وليس منهم ، فلا يلبث أن يظهر أمره ويفتضح سره ، فيكون ما تلبس به كالتراب على الصفوان يذهب به الوابل ، كذلك تكشف الحوادث وما يبتلى به المؤمنون والمنافقون حقيقة هؤلاء وتفضح سرائرهم ، فهم
لا يقدرون على شيء مما كسبوا أي لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم ونفقاتهم ولا يجنون ثمراتها في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الدنيا فلأن المن والأذى مما ينافي غاية الصدقة - كما تقدم - ومن فعلهما كان أبغض إلى الناس من البخيل الممسك ، والرياء لا يخفى على الناس فهو كما قال الشاعر :
ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اكتسيت به فإنك عار
فلا تكاد تجد منانا ولا مرائيا غير مذموم ممقوت ، وأما في الآخرة فلأن
المن والأذى كالرياء في منافاة الإخلاص ، ولا ثواب في الآخرة إلا للمخلصين في أعمالهم الذين يتحرون بها سنن الله - تعالى - في تزكية نفوسهم وإصلاح حال الناس
والله لا يهدي القوم الكافرين أي مضت سنته بأن الإيمان هو الذي يهدي قلب صاحبه إلى الإخلاص ووضع النفقات في مواضعها ، والاحتراس من الإتيان بما يذهب بفائدتها بعد وجودها ، فكان الكافر بمقتضى هذه السنة محروما من هذه الهداية التي تجمع لصاحبها بين صلاح القلب والعمل وسعادة الدنيا والآخرة .
بعد هذا ضرب الله المثل للمخلصين في الإنفاق لأجل المقابلة بينهم وبين أولئك المرائين والمؤذين ، وعقبه بمثل آخر يتبين به حال الفريقين فقال :