هم درجات عند الله أي إن كلا من الذين يتبعون رضوان الله والذين يبوءون بسخطه درجات أو ذوو درجات ومنازل عند الله ، أي في يوم الجزاء الذي ينسب إليه وحده لا ينسب إلى غيره فيه شيء لا حقيقة ولا مجازا كما قال :
رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 : 15 ، 16 ] .
والذي في كتب التفسير المشهورة أن العندية هنا عندية علم وحكم ، أي هم أصحاب درجات في حكم الله وبحسب علمه بشئونهم وبما يستحقون ، وكلا المعنيين صحيح ولا تنافي بينهما ، وقالوا : إن ذكر الدرجات من باب التغلب فتشمل الدركات ، فالدرجات
[ ص: 180 ] ما يرتقى عليه وهي للمرتقين من أهل الرضوان ، والدركات ما يتدلى فيه ، وهي للمتدلين من أهل السخط والخذلان ، كما قال في الأول :
ورفع بعضهم درجات [ 2 : 253 ] وفي الثاني :
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ 4 : 145 ] قال
الراغب : الدرك كالدرج ، لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود والدرك اعتبارا بالحدور ; ولهذا قيل درجات الجنة ودركات النار ولتصور الحدود في النار سميت هاوية . ( قال ) : والدرك ( بسكون الراء ) أقصى قعر البحر ، والمعنى أن الناس يتفاوتون في الجزاء عند الله كما يتفاوتون هنا في العرفان والفضائل ، وفي الجهل والرذائل ، وما يترتب على ذلك أو يترتب عليه ذلك من الأعمال الحسنة والقبيحة . وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا من الرفيق الأعلى في الدرجات العلى الذي كان يطلبه النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه في مرض موته إلى الدرك الأسفل الذي ورد في سورة النساء - وذكر آنفا - وهذه الدرجات لا تكون في الآخرة عطاء مؤتنفا وكيلا جزافا ، وإنما تكون أثرا طبيعيا لارتقاء الأرواح وتدليها هنا بالأعمال ; ولذلك قال بعد ذكرها :
والله بصير بما تعملون فهو لا يغيب عنه شيء من أعمالهم ، وما لها من التأثير في تزكية نفوسهم التي يترتب عليها الفلاح في ارتقاء الدرجات وفي تدسيتها التي تترتب عليها الخيبة في هبوط الدركات
قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ 91 : 9 ، 10 ] فتحصيل الدرجات إنما يكون في هذه الدار ، والتمتع بها يكون في دار القرار ، أما الدرجات في الدنيا فقد ورد فيها قوله - تعالى - :
أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون [ 43 : 32 ] وقوله - تعالى - :
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما [ 6 : 165 ] وليست هذه الدرجات بوسيلة ولا مقصد مما نحن فيه ، وإنما هي درجات ابتلاء وامتحان يظهر بها التفاوت بين أفراد الإنسان .
وأما درجات الآخرة فهي المرادة بقوله - تعالى - بعد ذكر توسيع الرزق على بعض الناس وتضييقه على بعض :
انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 : 21 ] وأما رسائلها التي قلنا إن هذه آثارها وهي المعارف والأعمال ، فمنها قوله - عز وجل - :
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [ 58 : 11 ] وقوله :
نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم [ 12 : 76 ] وقوله - سبحانه - :
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء [ 6 : 83 ] فهذه كلها درجات العلم والحجة ، ومنها قوله في ربط درجات العمل بدرجات الجزاء :
وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة [ 4 : 95 ، 96 ] ومنها بعد ذكر
[ ص: 181 ] الجزاء :
ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون [ 6 : 132 ] وقوله :
ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا [ 20 : 75 ] .
فحسبنا هذه الآيات مبينة لما قلناه من كون درجات الجزاء في الآخرة على حسب درجات الارتقاء بالعلم والعمل في الدنيا ، وأن هذه الدرجات لا يمكن أن يعلمها إلا من أحاط بكل شيء علما ، فلا يخفى عليه أثر ما من آثار الأعمال في النفس ، ولا عاطفة من عواطف الإيمان في القلب ، ولا حقيقة من حقائق العلم في العقل ، ولا يعزب عنه شيء من تفاوت الناس في ذلك ، فدرجات ارتقاء الأرواح لها في علمه - تعالى - نظام دقيق أدق من نظام ميزان الحرارة والبرودة ، ومن ميزان الرطوبة ، ومن ميزان ثقل السائلات في درجاتها العليا والسفلى ، وما أشبه هذه الموازين بالموازين الطبيعية التي تعرف بها سنن الله - تعالى - في الكون ، وإن سننه - تعالى - في نفوس الناس لا تقل عن سننه في غيرها نظاما واطرادا ، وأن بين عليا الدرجات وسفلاها درجة أدنى أهل النار عقوبة ، وأدنى أهل الجنة مثوبة ; ولهذا كله قال بعد ذكر الدرجات : إنه بصير بما يعملون وليس عندي في الآية شيء عن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - إلا ما تراه قريبا في تفسير الآية التالية وهي :