إعجاز القرآن بما فيه من علم الغيب :
( الوجه الثالث ) : اشتماله على الإخبار بالغيب من ماض ، كقصص الرسل مع أقوامهم ، وقد تقدم بعض الكلام فيه ، ومن حاضر في عصر تنزيله كقوله تعالى : (
الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) ( 30 : 1 - 5 ) الآية ، وفيها خبران عن الغيب ظهر صدقهما بعد بضع سنين من نزول الآية ، وكان الصديق - رضي الله عنه - راهن بعض المشركين على صدق الخبر فربح الرهان ، وكقوله تعالى : (
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم ) ( 48 : 15 )
[ ص: 170 ] الآية ، وقوله : (
قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) ( 48 : 16 ) وقوله : (
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون ) ( 48 : 27 ) وهذه الآيات الثلاث في سورة الفتح وفي غيرها أيضا ، وفي سورة التوبة أمثالها من الأخبار عما في قلوب المنافقين وعما سيقولون في بعض المسائل ، ومن أظهر هذه الأخبار وعده تعالى بحفظ القرآن من النسيان والتغيير والتبديل في قوله : (
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( 15 : 9 ) ووعده بحفظ الرسول في قوله : (
والله يعصمك من الناس ) ( 5 : 67 ) دع ما تكرر في عدة سور من وعد الله لرسوله وللمؤمنين ، ومن وعيده للكافرين ، كقوله تعالى : (
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) ( 24 : 55 ) وكان الأستاذ الإمام يقول : إن الله تعالى لما ينجز لنا وعده هذا كله ، بل بعضه ، ولا بد من إتمامه بسيادة الإسلام في العالم كله حتى أوربة المعادية له . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى : (
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) ( 6 : 65 ) الآية ، أنه قال " إنها نبأ غيبي عمن يأتي بعد " بل ورد هذا المعنى في حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا ، وتجد بيان ذلك في تفسيرها من سورة الأنعام ، ومنه ظهور مصداقها في حرب الأمم الكبرى الأخيرة .
فهذه الأخبار الكثيرة بالغيب دليل واضح على نبوة نبينا وكون القرآن من عند الله تعالى ، إذ لا يعلم الغيب غيره سبحانه ، ولا يمكن معارضتها بما يصح بالمصادفة أو القرائن أحيانا من أقوال الكهان والعرافين والمنجمين ، فإن كذب هؤلاء أكثر من صدقهم - إن صح تسمية ما يتفق لهم صدقا منهم - ولكن الناس لا يحصون عليهم أقوالهم ولا يبحثون عن حيلهم وتلبيساتهم فيها ، وإنما يذكرون بعض ذلك إذا اقتضته الحال ، كتشنيع
أبي تمام على المنجمين في زعمهم أن عمورية لا تفتح إلا عند نضج التين والعنب ، في قصيدته المشهورة التي مطلعها :
السيف أصدق أنباء من الكتب
ويقول فيها :
سبعون ألفا كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
وقد قتل في عصرنا وزير من وزراء مصر ، فوجد الناس في تقويم ( نتيجة ) تلك السنة لأحد المنجمين نبأ عن قتله ، ومن شأن هذا التقويم أن يكون طبع قبيل دخول السنة التي قتل فيها ، وقد بحث بعض المدققين في ذلك ، فتبين له أن صاحب هذا التقويم قد طبع الورقة التي ذكر فيها هذا النبأ بعد وقوع القتل ، ووضعها فيه موضع ورقة أخرى أخرجها منه فأحرقها ،
[ ص: 171 ] ولكن كان قد بيع بعض النسخ من التقويم فوجد المدقق المشار إليه بعضها ، على أن دأب هؤلاء المنجمين أن يعبروا عما يتوقعون من أنباء المستقبل بآرائهم وبقرائن الأحوال ، وأخبار الصحف الدورية برموز وكنايات وإشارات يفسرون بها الوقائع بأهوائهم ، فإن لم يجدوها تحتمل شيئا منها كتموها ، وتعذر على غيرهم تكذيبهم فيها ، وأما
ما يعرفه الفلكيون بالحساب كالخسوف والكسوف ومطالع الكواكب ومغاربها ، فليس من التنجيم ولا من علم الغيب في شيء .