1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة النساء
  4. تفسير قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل
صفحة جزء
المسألة الرابعة : أولو الأمر هم أهل الإجماع :

بينا أن أصول الشريعة الإسلامية هي الأربعة المبينة في هذه الآية ، وطبق ذلك بعض المفسرين الأصوليين على الأصول الأربعة التي عليها مدار علم أصول الفقه ـ وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ـ وجعلوا الآية حجة على مشروعية الإجماع ، وهي لعمري أقوى دلالة عليه من آية : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ( 4 : 115 ) ، الآية ، بل لا تدل هذه على الإجماع الأصولي كما سيأتي في تفسيرها من هذه السورة ، وجعلوا معنى رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله هو القياس الأصولي ، واشترطوا أن يكون أهل الإجماع هم المجتهدين ، وكذلك أهل القياس ، وعلى هذا يشترط في أعضاء مجلس النواب الذين يسمون في عرف [ ص: 164 ] العثمانيين بالمبعوثين وفي أعضاء المحاكم والمجالس أن يكونوا من المجتهدين ، ولا يكون لهم صفة تشريعية بغير ذلك ، وهذا هو الذي يفهم من علم الأصول ، وقد علمت رأينا فيه وسنزيدك إيضاحا .

قال الرازي في تفسيره الكبير في المسألة الثانية من مسائل الآية : اعلم أن هذه الآية آية شريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه ، وذلك لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربعة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، وهذه الآية مشتملة على تقرير الأصول الأربعة ، أما الكتاب والسنة فقد وقعت الإشارة إليهما بقوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، فإن قيل : أليس أن طاعة الرسول هي طاعة الله فما معنى هذا العطف ؟ قلنا : قال القاضي : الفائدة في ذلك بيان الدلالتين ، فالكتاب يدل على أمر الله ، ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة ، والسنة تدل على أمر الرسول ، ثم نعلم منه أمر الله لا محالة .

ثم قال في المسألة الثالثة : اعلم أن قوله : وأولي الأمر منكم يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة ، انتهى ، وقد تقدم تفصيل كلامه في إثبات ذلك ورد قول من قال : إن المراد بأولي الأمر الأئمة المعصومون ، ومن قال : إنهم الأمراء والسلاطين ، وجزمه بأن المراد من يمثل الأمة وهم أهل الحل والعقد .

ثم قال في المسألة الرابعة : اعلم أن قوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول يدل على أن القياس حجة ، والذي يدل على ذلك أن قوله : فإن تنازعتم في شيء إما أن يكون المراد ، فإن اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الإجماع ، أو المراد فإن اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة ، والأول باطل ؛ لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك داخلا تحت قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وحينئذ يصير قوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إعادة لعين ما مضى وإنه غير جائز ، وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني ، وهو أن المراد فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والإجماع ، وإذا كان كذلك لم يكن المراد من قوله : فردوه إلى الله والرسول طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة ، فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له وذلك هو القياس ، فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس .

ثم أورد الرازي على الأخير أنه يجوز أن يكون المراد برد المتنازع فيه إلى الله ورسوله تفويض أمره إليهما وعدم الحكم فيه بشيء ، أو إلى البراءة الأصلية ، وأجاب عنهما بإسهابه المعتاد ، وإنني أذكر عبارة النيسابوري في الإجماع والقياس ورد هذين الإيرادين ـ وإن تقدم بعضها ـ لأنه اختصر فيها ما طال به الرازي ، قال بعد ما قيل في مسألة أولي الأمر غير ما ادعاه : " وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون المعصوم [ ص: 165 ] كل الأمة ، أي : أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء ، فالمراد ما اجتمعت عليه الأمة وهو المدعى .

قال : وأما القياس ، فذلك قوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، إذ ليس المراد من رده إلى الله والرسول رده إلى الكتاب والسنة والإجماع وإلا كان تكرارا لما تقدم ، ولا تفويض علمه إلى الله ورسوله والسكوت عنه ; لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل الإهمال وتفتقر إلى قطع مادة الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات ، ولا الإحالة على البراءة الأصلية فإنها معلومة بحكم العقل ، فالرد إليها لا يكون ردا إلى الله والرسول ، فإذا ردها إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة لها فهذا هو معنى القياس .

" فحاصل الآية الخطاب لجميع المكلفين بطاعة الله ، ثم لمن عدا الرسول بطاعته ، ثم لما سوى أهل الحل والعقد بطاعتهم ، ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها ـ إن وقع اختلاف واشتباه في الناس في حكم واقعة ما ـ أن يستخرجوا لها وجوها من نظائرها وأشباهها ، فما أحسن هذا الترتيب " ، انتهى كلام النيسابوري ، والأظهر المختار أن رد ما لا نص فيه إلى الله والرسول يتحقق بعرضه على ما فيهما من القواعد العامة كاليسر ، ورفع الحرج من الأمة ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وكمنع الضرر والضرار ، وكون المحظور لذاته يباح للضرورة ، والمحظور لسد الذريعة يباح للحاجة ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا ، ويلي هذا عرض الجزئيات في المعاملات على أشباهها ، وتقدم أيضا أن المراد بالرد هنا : رد ما يتنازع فيه أولو الأمر ، وأما ما يتنازع فيه غيرهم في الأمور العامة فيرد إليهم عملا بآية الاستنباط [ 4 : 83 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية