( تدبر القرآن وما يتوقف عليه )
حاصل معنى الآية الكريمة أن
تدبر القرآن وتأمل ما يهدي إليه بأسلوبه الذي امتاز به هو طريق الهداية القويم ، وصراط الحق المستقيم ، فإنه يهدي صاحبه إلى كونه من عند الله ، وإلى وجوب الاهتداء به لكونه من عند الله الرحيم بعباده العليم بما يصلح به أمرهم ، مع كون ما يهدي إليه معقولا في نفسه لموافقته للفطرة ، وملاءمته للمصلحة .
وفيه أن تدبر القرآن فرض على كل مكلف لا خاص بنفر يسمون المجتهدين يشترط فيهم شروط ما أنزل الله بها من سلطان ، وإنما الشرط الذي لا بد منه ولا غنى عنه ، هو معرفة لغة القرآن مفرداتها وأساليبها ، فهي التي يجب على من دخل في الإسلام ومن نشأ فيه أن يتقنها بقدر استطاعته بمزاولة كلام بلغاء أهلها ومحاكاتهم في القول والكتاب حتى تصير ملكة وذوقا ، لا بمجرد النظر في قوانين النحو والبيان التي وضعت لضبطها وليس تعلم هذه اللغة ولا غيرها من اللغات بالأمر العسير فقد كان الأعاجم في القرون الأولى يحذقونها في زمن قريب حتى يزاحموا الخلص من أهلها في بلاغتها ، وإنما يراه أهل هذه الأعصار عسيرا لأنهم شغلوا عن اللغة نفسها بتلك القوانين وفلسفتها ، فمثلهم كمثل من يتعلم علم النبات من غير أن يعرف النبات نفسه بالمشاهدة ، فلا يكون حظه منه إلا حفظ القواعد والمسائل فيعرف أن الفصيلة الفلانية تشتمل على كذا وكذا ، وإذا رأى ذلك لا يعرفه .
وفيه أيضا وجوب الاستقلال في فهم القرآن لأن التدبر لا يتم إلا بذلك ، ويلزم من ذلك
بطلان التقليد ، قال
الرازي : " دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال ، وعلى القول بفساد التقليد ; لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته ، وإذا كان لا بد في صحة نبوته من استدلال فبأن يحتاج في معرفته ذات الله وصفاته إلى الاستدلال كان أولى " اهـ .
الأمر كما قال
الرازي وأكبر مما قال التقليد مع منع الاستدلال ، والاستدلال واجب ، التقليد منع من تدبر القرآن للاهتداء به ، وتدبره واجب ، إن الله - تعالى - هو الذي أمرنا بتدبر كتابه ،
[ ص: 241 ] وبالاستدلال به ، فلا يملك أحد من خلقه أن يحرم علينا ما أوجبه ، الأئمة المجتهدون أجمعوا على وجوب الاهتداء بالقرآن وعلى المنع من التقليد الذي يصد عنه ويقتضي هجره ، ولم يجعلوا أنفسهم شارعين يطاعون ، وإنما كانوا أدلاء للناس لعلهم يهتدون ، ما قال بوجوب التقليد وتحريم الاستقلال إلا بعض المقلدين الذين يعترفون بأنهم ليس لهم قول يتبع ولا أمر يطاع ، وكان ذلك دسيسة من الملوك والأمراء المستبدين ، ليذللوا الناس ويستعبدوهم باسم الدين ، وكذلك كان ، وقد علمت أن قبول الاستبداد واتباع القرآن ضدان لا يجتمعان ، وما نبغ عالم من العلماء الذين نشئوا على التقليد إلا وحاربه بعد نبوغه ،
كالإمام الرازي الذي نقلنا قوله آنفا ، وله أقوال في ذلك أعم وأشمل نقلنا بعضها من قبل ، وغيره كثيرون .
لسنا نعني ببطلان التقليد أن كل مسلم يمكن أن يكون
كمالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في استنباط الأحكام الاجتماعية في أبواب الفقه كلها فينبغي له ذلك ، وإنما نعني أنه
يجب على كل مسلم أن يتدبر القرآن ، ويهتدي به بحسب طاقته ، وأنه لا يجوز لمسلم قط أن يهجره ويعرض عنه ، ولا أن يؤثر على ما يفهمه من هدايته كلام أحد من الناس لا مجتهدين ولا مقلدين ، فإنه لا حياة للمسلم في دينه إلا بالقرآن ، ولا يوجد كتاب لإمام مجتهد ، ولا لمصنف مقلد ، يغني عن تدبر كتاب الله في إشعار القلوب عظمة الله - تعالى - وخشيته وحبه والرجاء في رحمته والخوف من عقابه ، ولا في تهذيب الأخلاق وتزكية الأنفس وتنزيهها عن الشرور والمفاسد ، وتشويقها إلى الخيرات والمصالح ، ورفعها عن سفاسف الأمور إلى معاليها ، ولا في الاعتبار بآيات الله في الآفاق ، وسننه في سير الاجتماع البشري وطبائع المخلوقات ، ولا في غير ذلك من ضروب الهداية التي امتاز بها على سائر الكتب الإلهية ، فكيف تغني عنه فيها المصنفات البشرية ؟ !
أما - وسر القرآن - لو أن المسلمين استقاموا على
تدبر القرآن والاهتداء به في كل زمان ، لما فسدت أخلاقهم وآدابهم ، ولما ظلم واستبد حكامهم ، ولما زال ملكهم وسلطانهم ، ولما صاروا عالة في معايشهم وأسبابها على سواهم .
هذا التدبر والتذكر الذي نطالب به المسلمون آنا بعد آن - كما هي سنة القرآن - لا يمنع أن يختص أولو الأمر منهم باستنباط الأحكام العامة في السياسة والقضاء والإدارة العامة ، وأن يتبعهم سائر الأمة فيها ، فإن الله - سبحانه - بعد أن أنكر على أولئك الفريق من الناس ترك تدبر القرآن ، أنكر عليهم أيضا إذاعتهم بالأمور العامة المتعلقة بالأمن والخوف ، وهداهم إلى ردها إلى أولي الأمر الذين هم أعلم بما ينبغي أن يعمل ، وأقدر على استنباط ما يجب أن يتبع فقال :