فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا .
قال
الإمام الرازي في وجه التناسب والاتصال : اعلم أنه - تعالى - لما أمر بالجهاد ورغب
[ ص: 247 ] فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة ، وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد ، بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد عاد في هذه الآية إلى الأمر بالجهاد .
وقال الأستاذ الإمام : تقدم أن الآيات في وصف أولئك الضعفاء ، ولما قال : إن الرسول ليس حفيظا عليهم ، وإنما هو مبلغ عن الله - تعالى - أيد هذا وأوضحه بقوله :
فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين أي : إنك أنت المكلف أن تقاتل في سبيل الله وتقدم تفسيرها . والرقيب على نفسك ، فقم بما يجب عليك بالعمل ، وحرض المؤمنين على القتال معك ; لأن التحريض من التبليغ الذي منه الأمر والنهي
عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ، عسى هنا تدل على الإعداد والتهيئة لأن الترجي الحقيقي محال على العالم بكل شيء القادر على كل شيء ، فهي بمعنى الخبر والوعد ، وخبره تعالى حق لأنه لا يخلف الميعاد ، والبأس القوة ، وكان بأس الكافرين موجها إلى إذلال المؤمنين ، لأجل الإيمان لا لذواتهم وأشخاصهم ، فتأييد الإيمان متوقف على كف بأسهم ، وكفه متوقف على تصدي المؤمنين للجهاد .
أقول : سبق غير مرة تفسير الأستاذ الإمام لكلمة عسى بمثل هذا وحاصل المعنى أن
تحريض النبي للمؤمنين على القتال معه هو الذي يحملهم بباعث الإيمان والإذعان النفسي دون الإلزام والسيطرة على الاستعداد له وتوطين النفس عليه وذلك هو الذي يوطن نفوس الكافرين على كف بأسهم عن المؤمنين وبعدهم لترك الاعتداء عليهم ; لأنه لا شيء أدعى إلى ترك القتال من الاستعداد للقتال ، وعلى هذه القاعدة جرى عمل دول
أوربة في هذا العصر وبه يصرحون ، تبذل كل دولة منتهى ما في وسعها من اتخاذ آلات القتال في البر والبحر وتنظيم الجيوش ، لتكون القوى الحربية بينهن متوازنة ، فلا تطمع القوية في الضعيفة فيغريها ضعفها بالإقدام على محاربتها .
وجعل عسى للترجي لا يقتضي أن يكون المترجي هو الله - عز وجل - ، وإنما يكون المعنى أن ما دخلت عليه مرجو في نفسه بحسب سنة الله في خلقه .
والله أشد بأسا وأشد تنكيلا أي : لا يخيفنكم أيها المؤمنون بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم ولا تصدنكم عن طاعة الرسول والعمل بتحريضه مذعنين مختارين ; فإن الله - تعالى - الذي وعده بالنصر أشد بأسا منهم وأشد تنكيلا لهم مما يحاولون أن ينكلوا بكم ، ولكن سنته سبقت بأن تكون
العاقبة لأهل الحق إذا اتقوا أسباب الخذلان ، واتخذوا أسباب الدفاع مع الصبر والثبات ، لا أنه ينصرهم وهم قاعدون أو مقصرون في الجري على سننه التي لا تبديل لها ولا تحويل ، والتنكيل أن تعاقب المجرم عبرة ونكالا لغيره يمنعه أن يجرم مثل إجرامه ، وهو من النكول بمعنى الامتناع .
[ ص: 248 ] ويؤخذ من الآية أن الله - تعالى - كلف نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده ، وهي تدل على أنه أعطاه من الشجاعة ما لم يعط أحدا من العالمين ، وسيرته - صلى الله عليه وسلم - تدل على ذلك ، فهو قد تصدى لمقاومة الناس كلهم بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال ، واتباع النور الذي أنزل معه ، ولما قاتلوه قاتلهم ، وقد انهزم أصحابه عنه مرة فبقي ثابتا كالجبل لا يتزلزل ، وقد علم مما تقدم أن الفاء في قوله : فقاتل للتفريع بترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وقيل : إنها جواب لشرط مقدر وهو : إن أردت الفوز فقاتل ، وكان الأقرب أن يقال : إن التقدير وإذا كنت مبلغا عن الله - عز وجل - لا وكيلا ولا جبارا على الناس فقاتل ، أنت امتثالا لأمر الله لك ، وحرض غيرك من المؤمنين على طاعة الله - تعالى - بذلك تحريضا ، لا إلزام سلطة ولا إجبار قوة ، والتحريض الحث على الشيء بتزيينه وتسهيل الخطب فيه كما قال
الراغب .
ومعنى :
لا تكلف إلا نفسك لا تكلف أنت إلا أفعال نفسك دون أفعال الناس ، فلا يضرك إعراض الذين قالوا
ربنا لم كتبت علينا القتال ( 4 : 77 ) ، والذين يقولون لك طاعة ويبيتون غير ذلك ، فإن طاعتهم لك إنما تجب لأنك مبلغ عن الله فهي طاعة الله ، ومن أطاع الله لا يضره عصيان من عصاه .