الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا أي : لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم أيها المسلمون بما هداكم إليه من طاعة الله والرسول ظاهرا وباطنا ، وتدبر القرآن ورد الأمور العامة إلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعته تلك الطائفة التي تقول للرسول : طاعة لك ، وتبيت غير ذلك ، والتي تذيع بأمر الأمن والخوف وتفسد على الأمة سياستها به ، إلا قليلا من الأتباع ، أي لاتبعتم الشيطان في أكثر أعمالكم بجعلها من الباطل والشر لا فيها كلها ، أو إلا قليلا منكم أوتوا من صفاء الفطرة وسلامتها ما يكفي لإيثارهم الحق والخير كأبي بكر وعلي ، فهي كقوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ( 24 : 21 ) .

                          وفسر بعض المفسرين الفضل والرحمة بالقرآن وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعناية [ ص: 246 ] الله بهدايتهم بهما كما قلنا ، والقليل المستثنى بمثل قس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال نحوه الأستاذ الإمام فهو اختيار منه له .

                          وقال أبو مسلم الأصفهاني : إن المراد بفضل الله ورحمته هنا النصر والظفر والمعونة التي أشار إليها في قوله في الآيات السابقة من هذا السياق : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم ( 4 : 73 ) ، أي لولا النصر والظفر المتتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين إلا القليل منكم ، وهم أصحاب البصائر النافذة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شروط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا ، فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا ، ولأجل تواتر الانهزام يدل على كونه باطلا ، بل الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل ، وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق . انتهى من التفسير الكبير للرازي ، وهو الذي صحح قول أبي مسلم ورجحه ، وقوله بعدم التلازم بين كونه حقا أو باطلا وبين الظفر وضده لا يسلم مطلقا ، وإنما يسلم بالنسبة إلى بعض الوقائع ، فإن العاقبة للمتقين ، وقد بينا ذلك مرارا .

                          وقيل : إن الاستثناء من قوله : أذاعوا به ، وقيل : من الذين يستنبطونه ، وكلاهما بعيد على أنه مروي عن بعض مفسري السلف ، قال ابن جرير بعد رواية القولين ، وقال آخرون : معنى ذلك ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا ، قالوا : وقوله : إلا قليلا خرج مخرج الاستثناء في اللفظ ، وهو دليل على الجمع والإحاطة ، فالاستثناء دليل الإحاطة ، أقول : أو كما يقول الأصوليون : معيار العموم ، أي : فهو لتأكيد ما قبله كقوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ( 87 : 6 ، 7 ) ، وهذا الاستعمال وإن كان صحيحا لا يظهر هنا ، وقد بينا من قبل أن من دقة القرآن وتحريه للحقائق عدم حكمه بالضلال العام المستغرق على جميع أفراد الأمة ، ومثل هذا الاحتراس متعدد فيه ، ولا يكاد يتحراه الناس [ راجع ص 54 ج 4 طبعة الهيئة المصرية للكتاب ] .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية