قلت :
إن من سنته - تعالى - في الإنسان أن يولي كلا من الأصناف ما تولى ، ولكنه لا يصلي كلا منهم جهنم التي ساء مصيرها ; لأن إصلاء جهنم هو تابع لما يتولاه الإنسان من الضلالة في اعتقاده ، وناهيك به إذ تولاها بعد أن ظهرت الهداية له ، وذلك أن الجزاء أثر طبيعي لما تكون عليه النفس في الدنيا من الطهارة والزكاء والكمال بحسب تزكية صاحبها لها ، أو من ضد ذلك بحسب تدسيته لها ، ويدل على هذا وذاك قوله - تعالى - :
نوله ما تولى .
وإنني لا أتذكر أنني اطلعت على تفسير واضح لهذه الجملة الحكيمة العالية
نوله ما تولى ، وإنما يفسرون اللفظ بمدلوله اللغوي ، كأن يقولوا : نوجهه إلى حيث توجه ،
[ ص: 339 ] أو نجعله واليا لما اختار أن يتولاه ، أو يزيدون على ذلك استدلال كل فرقة بالآية على مذهبها أو تحويلها إليه ، أعني مذهبهم في الكسب والقدر والجبر ، وتعلق الإرادة الإلهية أو عدم تعلقها بالشر ، والذي أريد بيانه وتوجيه الأذهان إلى فهمه هو أن هذه الجملة مبينة لسنة الله - تعالى - في
عمل الإنسان ، ومقدار ما أعطيه من الإرادة والاستقلال ، والعمل بالاختيار ، فالوجهة التي يتولاها في حياته ، والغاية التي يقصدها من عمله ، يوليه الله إياها ويوجهه إليها ، أي يكون بحسب سنته - تعالى - واليا عليها ، وسائرا على طريقها ، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه ، ولو شاء - تعالى - لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة في الطاعة كالملائكة ، ولكنه شاء أن يخلقهم على ما نراهم عليه من تفاوت الاستعداد والإدراك ، وعمل كل فرد بحسب ما يرى أنه خير له وأنفع في عاجله وآجله أو فيهما جميعا إلى آخر ما لا محل لشرحه هنا من طبائع البشر .
وذهب بعضهم إلى أن المراد من تولية الله لمثل هذا ما تولى هو ما يلزمها من عدم العناية والألطاف ، بناء على أن لله - تعالى - عناية خاصة ببعض عباده وراء ما تقتضيه سننه في الأسباب والمسببات ، وجعل الجزاء في الدنيا والآخرة أثرا طبيعيا للأعمال ، وما في ذلك من النظام والعدل العام ، والظاهر أن المراد بالجملة ما ذكرنا من حقيقة معناها ، وحاصله أن من كان هذا شأنه فهو الجاني على نفسه ; لأن من سنة الله أن يكون حيث وضع نفسه واختار لها وأن مصيره إلى النار وبئس القرار ، نعم إن الله - تعالى - يختص برحمته من يشاء ، ويهب للذين أحسنوا الحسنى ويزيدهم من فضله ، ولكن ليس هذا المقام مقام بيان سبب الحرمان من مثل هذا الاختصاص ، إذ ليس من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مظنة له ، فيصرح بنفيه عنه ، وليت شعري أيقول الذين فسروا التولية بهذا النفي والحرمان من العناية والألطاف : إن هذا الصنف وحده هو المحروم من ذلك ، أم الحرمان شامل لغيره من أصناف الضالين ؟ وهل يستلزم حرمانه من ذلك اليأس من هدايته ثانية أم لا ؟ لا يمكنهم أن يقولوا في هذا الباب ما تقوم به الحجة ويسلم من الإيرادات التي لا تدفع ، والصواب أنه لا مانع يمنع من عودة هذا الصنف من الضالين إلى الهدى ; لأن علمه بحقيقة ما كان عليه ، وبطلان ما صار إليه ، لا يبرح يلومه ويوبخه على ما فعله ، ولا يبعد أن يجيء يوم يكون فيه الفلج له .
أما
السبب الذي يحمل من تبين له الهدى على تركه ، فهو لا بد أن يكون حالا من الأحوال
[ ص: 340 ] النفسانية القوية كالحسد والبغي ، وحب الرياسة والكبر ، والشهوة الغالبة على العقل ، والعصبية للجنس ، والقول الجامع فيه اتباع هوى النفس ، وقد ثبت أن بعض أحبار
اليهود قد تبين لهم صدق دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فتولوا عنها حسدا له وللعرب أن يكون منهم خاتم النبيين ، وإيثارا لرياستهم في قومهم ، على أن يكونوا مرؤوسين في غيرهم ، وارتداد
nindex.php?page=showalam&ids=15620جبلة بن الأيهم عن الإسلام ، لما رأى أنه يساوي بينه وبين من لطمه من السوقة ، وارتد أناس في أزمنة مختلفة عن دينهم لافتتانهم ببعض النساء من الكفار ، وعلة ذلك كله أي علة تأثير هذه الأسباب في نفوس بعض الناس هي ضعف النفس ومرض الإرادة بجريان صاحبها من أول نشأته على هواه ، وعدم تربيتها على تحمل ما لا تحب في العاجل لأجل الخير الآجل ، وهذا هو مرادنا من إرجاع جميع الأسباب إلى اتباع الهوى وهو ما أشرنا إليه من قبل ، وهو يرجع إلى ما قلنا من أن الإنسان مفطور عليه من ترجيح ما يرى أنه خير له وأنفع ، وصاحب الهوى المتبع لا يتمثل له النفع الآجل كما يستحوذ عليه النفع العاجل لضعف نفسه ، ومهانتها وعجزها عن الوقوف في مهب الهوى من غير أن تميل معه ، وقد حكي أن
الحجاج مد سماطا عاما للناس فجعلوا يأكلون وهو ينظر إليهم ، فرأى فيهم أعرابيا يأكل بشره شديد فلما جاءت الحلوى ترك الطعام ووثب يريدها فأمر
الحجاج سيافه أن ينادي : من أكل من هذه الحلوى قطعت عنقه بأمر الأمير ،
والحجاج يقول ويفعل فصار الأعرابي ينظر إلى السياف نظرة وإلى الحلوى نظرة ، كأنه يرجح بين حلاوتها ومرارة الموت ، ولم يلبث أن ظهر له وجه الترجيح ، فالتفت إلى
الحجاج وقال له : " أوصيك بأولادي خيرا " وهجم على الحلوى وأنشأ يأكل
والحجاج يضحك ، وهو إنما أراد اختباره .
ومن مباحث الأصول في هذه الآية استدلال بعضهم بها على
حجية الإجماع ; لأن مخالفه متبع غير سبيل المؤمنين ، وعبر بعضهم في بيان حجيته بأنه هو سبيل المؤمنين وقد علمت أن الإجماع الذي يعنونه هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها في أي عصر على أي أمر ، والآية إنما نزلت في سبيل المؤمنين في عصره لا بعد عصره ، وأتذكر أنني بينت عدم اتجاه الاستدلال بالآية على حجية الإجماع في المنار ، وكذلك رده الأستاذ الإمام والإمام
الشوكاني في إرشاد الفحول ، والآية التي تدل على الإجماع الصحيح هي قوله - تعالى - في هذه السورة :
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( 59 ) ، وقد تقدم تفسيرها وبحث الإجماع فيها ، وزدته بيانا في المسألة الخامسة من المسائل التي جعلتها متممة لتفسيرها .